ننشر مقالة للأستاذ الدكتور خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبي، بكلية الآداب، جامعة القاهرة، بعنوان الانتماء الحقيقى.
فى يناير 2019، كتبت مقالا أنتقد فيه الأطر التى كانت تتعامل بها الحكومات المصرية المتلاحقة - فيما قبل عام 2013- مع القطاعات المهمشة فى المجتمع المصرى، مثل الريف والصعيد والمناطق الحدودية؛ حيث كانت تغض الطرف عنها؛ تاركة إياهم للجمعيات الخيرية المسيسة، تحن وتعطف عليهم، تعالجهم وتعلمهم. وفى الوقت الذى كانت تظن فيه الدولة- عندئذ- بأنها رفعت عن كاهلها عبء هؤلاء المواطنين، كانت الجماعات المتطرفة التى تقدم لهم باليد اليمنى، ما هو أشبه بالعطف على المتسول (حيث حقائب النقود التى يوزعها أحد الأفراد، أو شراء جهاز العروس لفتاة يتيمة، أو القوافل الطبية، ....)، أقول أشبه بالعطف على متسول فى طريق، لتأخذ باليد اليسرى ثمن ما قدمته أضعافا، إذ لم تكن هذه الجماعات أو الجمعيات لتقدم مثل هذا الدعم لوجه الله، أو بدون مقابل، وإنما كان مقابله هو أن تنغمس هذه الفئات الاجتماعية المهمشة والمحتاجة فى انتماء بديل، هو الانتماء لأى من هذه الكيانات المتطرفة، بديلا عن كيان الوطن والدين الحقيقي. وقلت-عندئذ- لا تلم على طفل كاد أن يخسر تعليمه، لولا أنْ التقطه أحد الكوادر الإخوانية مدعيا أنه يحنو عليه، فصار أستاذا فى جامعة أو طبيبا أو مهندسا إذا كان متفوقا، أو صار درعا بشريا إذا كان فاشلا، أقول لا تلم عليه فى استماتته بشراسة فى الدفاع عن هذا الكيان، بل اللوم كل اللوم على الحكومات فى تخليها عنهم. فنظرا إلى غياب تلك الحكومات عن القيام بأدوارها المجتمعية، والتوعوية، فتركت المواطن، وكذا الطفل- تلك العجينة الطرية- لقمة سائغة لهذه الجماعات، توظفهم كيفما تشاء؛ ومن ثم يصبح مشهدا رابعة والنهضة، والحشود البشرية بمثابة فاتورة يسددها كل من استفاد من هذا الدعم المادى من مثل هذه الجماعات، انتقاما من دولة- من وجهة نظرهم- تخلت عنهم لحظة ضعفهم. كتبت هذا حينها وكلى أسى؛ بالرغم من إشارتى حينئذ إلى بعض المشروعات التى مثلت لى بارقة أمل.
واليوم أكتب لأقول إن كل ما كنت أنتقده، التفتت إليه القيادة السياسية الراهنة، فبعد أن استتبت الأمور، وعاد الاستقرار والهدوء إلى الشارع المصري، الذى كان بمثابة مطلب أساس كان يستوجب الأولوية، توجهت الدولة فى خطة علمية واعية نحو المواطن المهمش، فراحت تنتشله من العشوائيات التي- وبكل أسف- كانت معظمها تربة خصبة للخروج عن القانون؛ ومن ثم الخروج على الوطن، وتحميله كل أسباب التردى الاجتماعى والإنسانى الذى يعيشه أهل هذه العشوائيات، فتعد له مساكن آدمية، ترتقى بالمواطن نفسيا وإنسانيا واجتماعيا وصحيا. إلى جانب معاش "تكافل وكرامة"، تلك المنحة التى تقدمها الدولة، وليست تلك الكيانات المتطرفة، التى كانت توجهها لصالح مصالحها الخاصة بها. وبدلا من القوافل الطبية المسيسة نجد الدولة ترعى مشروعا قوميا للقضاء على فيروس C، ثم قوافل 100 مليون صحة، وبدلا من العطف على الفقراء بمئة جنيه، وبتجهيز جهاز عروسة، أو توصيل مياه، أو منح أسرة بقرة أو جاموسة، ترعى القيادة السياسية مشروعا قوميا هو الأكبر والأضخم بل الأهم عالميا، هو مشروع "حياة كريمة"، ذلك المشروع الذى سينهض بالمواطن وبوعيه وبفكره، ناهيك عن النهوض به اقتصاديا واجتماعيا. إن هذا المشروع القومى يستبدل أسلوب العطف والتسول، والقطيع الذى ينتظر قطعة خبز ليتصارع عليها مع رفاقه، يستبدل هذا الأسلوب الإذلالى النفعى بأسلوب يعتمد على كرامة المواطن والنهوض به، وعيا وفكرا وعملا، واعتمادا على جهده وعرقه، بدلا من التواكل، وهو ما يأتى عملا بالمثل الصينى "لا تعطنى سمكة، ولكن علمنى كيف أصطادها". فما فائدة الجنيهات، أو أكياس السكر والأرز والشاي، التى حتما ستنتهي؟ إن ثقافة توزيع مبالغ نقدية أو سلع تموينية على نحو ما كان متبعا مع الجمعيات الخيرية المسيسة، ترسخ لأزمتين اجتماعيتين تقتلان الدولة الوطنية فى مقتل، أولاهما، ترسيخ لمفهوم البطالة، والعمل على نشر ثقافة التواكل والاعتماد على الآخر، الذى سيأتى ليحن ويعطف على بمائة جنيه، أو ببعض السلع التموينية. وثانيتهما: ترسيخ لمفهوم الدولة الموازية، بعد أن أهملت الدولة الحقيقية حقوق مواطنيها. ولذلك كانت مواجهة القيادة السياسية الحالية حاسمة لذلك الإرث، وذلك عن طريق نشر الوعى المجتمعى بكافة أنواعه، وعن طريق المصارحة والشفافية، وكذلك عن طريق السير فى الكثير من المشروعات التاريخية، التى تجعل من المواطن فاعلا، بعد أن كان مفعولا به. إن الدولة المصرية الجديدة لم تعد تعرف سوى جرأة مواجهة تلك الأزمات بجسارة، دونما تلاعب أو دغدغة لمشاعر المواطن الغلبان.
هذه مصرالمسئولة عن المواطن، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فلم تعد تتركه لكل من هب ودب، فيتحكم فى مصائر الناس بقدر ما يتحكم فى إعالتهم. هذا هو رد الاعتبار الذى تقوده القيادة السياسية، تلك القيادة التى تتحمل مسئوليات جسامًا فى عنقها، منها، عودة المواطن إلى حضن وطنه، بدلا من الارتماء فى حضن من يستغلهم. وكذلك عودة الأخلاق والقيم والأعراف إلى المجتمع بعد أن غابت وضاعت فى غياهب الفوضى التى غزت المجتمع المصرى عقب عام 2011. إن الدولة المصرية الراهنة التى ورثت تلالا من المشاكل المتراكمة عبر عقود فى صراع مع الزمن لعودة الثقة بين المواطن ووطنه، ها هى تحاول بناء جسور الثقة بين المواطن ووطنه، أساسها المصارحة والشفافية، ومشاركة المواطن فى المعرفة بالواقع وأزماته؛ ليكون جزءا من حلها، بعيدا عن الكلام المعسول، أو كلام الليل الذى يشبه الزبدة، التى تسيح مع سطوع شمس نهار جديد. أقول هذا بعد أن رأى المواطن أن أحدا لم يخدعه؛ إذ يجد نفسه أمام كم هائل من الإنجازات المتلاحقة التى يراها يوما بعد يوم دون ضجة، لدرجة أن هذه الإنجازات- وبرغم كثرتها وضخامتها- أصبحت كما لو كانت روتينا يوميا اعتدنا عليه، لدرجة أنه- وبرغم من أهميتها وصعوبة تنفيذها- لم تعد تبهرنا أو تدهشنا، وإنما أصبحنا نطلب المزيد، بعد أن اعتادت العقلية المصرية على مثل هذه الإنجازات، إذ صارت خبرا عاديا. هذا بالرغم من أن أيا من هذه الإنجازات التى نعتبرها عادية، لم نكن نتخيل منذ عدة سنوات أننا نستطيع مجرد التفكير فى تنفيذه. إن هذه الدولة- ومن خلال ما تقدمه- فى طريقها لأن تعيد الانتماء الحقيقى إلى هذه الفئات المجتمعية الكثيرة المطحونة، التى كادت تفقد الأمل فى غد أفضل لهم ولأولادهم.
انتماء إلى الوطن/ الكل، وليس إلى فصيل/ جزء، وهو ما يعلى من قيم الوطن والمواطنة والانتماء الحقيقى الأصيل. إنه الوطن الحقيقى الذى يحافظ على كرامة مواطنه، ويدافع عن حقوقه، دون أن ينتظر منه شيئا سوى إدخال الرضا والسعادة على قلبه. فى مقابل هؤلاء الذين كانوا يمدون أيديهم إلى الفقراء، لكى يطالبوهم بسداد هذه الفواتير عندما يحتاجونهم، فى انتخابات (فيحشدونهم فى سيارات، نازعين منهم أرقامهم القومية)، أو عندما يحتاجونهم فى مظاهرات؛ إبرازا لقوتهم، فيحشدونهم مثل قطيع الأغنام، أو عندما يحتاجونهم فى اعتصامات؛ ليجعلوهم دروعا بشرية؛ ليلقوا حتفهم، فيتاجروا بقضاياهم. إن عودة انتماء المواطن الحقيقى لوطنه يقضى على الاستغلال لهؤلاء الفقراء والأيتام والأرامل، كما يقضى على تجارة البشر التى تقوم بها هذه الجماعات المتطرفة، إنسانيا ودينيا. إن معركة الوعى هى السبيل الوحيد لعودة الانتماء الحقيقي، ومحاربة التطرف والإرهاب، وها هى مصر تخوض هذه المعركة، بإيمان وعزيمة وتحدٍّ وعلم.