منذ أن شتم حسّان بن ثابت النابغة الذبيانى فى العصر الجاهلى قائلًا له "أنا أشعر منك ومن أبيك"، لأنّه فضّل الخنساء عليه فى سوق عكاظ، ومرورًا بوصف تولوستوى للناقد بذبابة الخيل، لأنّه يعيق المبدع عن الانطلاق والتحليق إلى آفاق بعيدة، والعلاقة متوترة فى أغلب الأحيان بين المبدع والناقد بعامة، وبين الشاعر والناقد بخاصة.
فالشاعر- الأصيل بالطبع - لا يرضى دائما بما هو متاح أو ما هو متحقق بالفعل ومستقر ومندمج فى تراثه الشعرى السابق - وربما المعاصر له - بل يسعى سعيًا دءوبًا لاكتشاف الجماليات الحديثة التى ترفد قصيدته وتضخ فى عروقها الدماء الجديدة التى تكسبها مزيدًا من الحيوية والتألق- وقبل ذلك وبعده - شرعية الوجود والتجذّر فى أرض الشعر المترامية الأطراف.
لكنّ الناقد صاحب المرجعيات الثابتة والتقاليد الأدبية المستقرة والتصورات المغلقة سيحتاج إلى وقت طويل لكى يُغيّر من قناعاته الذوقية - إن كانت لديه نوايا التجدد والتطور والتفاعل مع مقتضيات اللحظة الإبداعية الراهنة - ولا تكمن المشكلة فى هذا النمط من النقّاد، بقدر ما تكمن أيضًا فى نمط آخر من الشعراء المكتفين بذواتهم المفردة، المندفعين إلى الحوار معها فى سياق منعزل ضيّق، يُعرض عن أسئلة الإنسان والمجتمع والكون، بل أسئلة الكتابة الشعريّة ذاتها ودورها فى لحظتنا المعاصرة، ومن ثمّ فإنّ التصالح- الذى لا يبدو الآن فى الأفق بالطبع- قد يتجلّى وفق تصورى الشخصى فى سعى الناقد إلى الثقافة الأدبيّة المحدثة إلى جانب المرونة والرحابة فى تقبّل الجديد الأصيل ومحاولة التقاط شفراته الدّالة وربطها بسياقها الحضارى الراهن، وسعى الشاعر إلى استيعاب موروثه الشعرى السابق عليه والمعاصر له لكى لا يبدو نبتًا شيطانيًا منفلتًا من قيم الشعر الإنسانيّة المتوارثة عبر الأجيال، بل يبدو نباتًا متألقًا زاهيًا، امتصّ غذاء تربته الإبداعيّة الأصيلة، وأضاف إليها تجددًا وخصوبةً نوعية متفردة.