ننشر مقالا لـ أحمد بن ركاض العامرى، رئيس هيئة الشارقة للكتاب، ومدير عام معرض الشارقة الدولى للكتاب، والذى تنطلق فعالياته غدا الثلاثاء، يتحدث في مقالته عن الشارقة ودورها الثقافي.
ما بين الأنهار والحضارات علاقة تاريخية وثيقة، فعلى ضفافها بنت الأمم أولى مجتمعاتها، ومن مائها العذب، خرجت الزراعة المستدامة ورويت الكائنات وبعثت الحياة فى الحقول والسهول، لتظهر التجارة وتبنى المراكب لنقل وتبادل السلع بين المجتمعات، لهذا يطلق على الثقافات والحضارات البدئية التى نمت على الضفاف اليانعة، بحضارة الأنهر وثقافة الأنهر، مثل حضارة بلاد ما بين النهرين، وحضارة النيل فى مصر، وحضارة النهر الأصفر فى الصين والجانج فى الهند.
فى إمارة الشارقة نهر عذب سخي، إنه نهر غير تقليدي، يختلف فى توصيفه عن تلك الأنهر التى عرفناها فى دروس الجغرافيا، وقصدناها زائرين للتمتع بجمالها، لكنه يتطابق تماماً معها فى الأثر والأهمية، وفى الدور التنموى والحضاري، وهو معرض الشارقة الدولى للكتاب الذى يعد نهر المعرفة الرئيسى للإمارة، وواحد من أبرز وأهم ثلاثة معارض كتب على مستوى العالم.
وحتى نكون أكثر دقة فى التحليل، لا بد من القول إن نهر الشارقة يتفوق على الأنهار الطبيعية فى عمق واستدامة التأثير، فهو لا يروى الحياة البيولوجية فقط، بل يسهم بشكل مباشر فى تشكل الهوية الفردية والجماعية ويمنحها أسباب رفعتها وسموها، ويعزز المشترك الفكرى والعاطفى الذى على أساسهما تقوم المجتمعات الإنسانية، إلى جانب دوره الآخر المتمثل فى إنعاش وبث الحياة فى المنظومة الاقتصادية التنموية سواء من خلال تنشيط الحراك الاقتصادى العام، أو تعزيز القيمة المعرفية لرأس المال البشري.
وكما لكل نهر منابع وأصول وأسباب قوة وعوامل استمرارية، فإن نبع معرض الشارقة الدولى للكتاب وأسباب قوته واستمراريته، رؤية ورعاية صاحب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، فإيمانه بقوة الثقافة فى هندسة الوجدان العميق للأفراد والمجتمعات، منح مشاريعنا الثقافية عامةً، ومعرض الشارقة الدولى للكتاب بشكل خاص، كل الأسباب للاستمرار ومراكمة المنجزات، حتى أصبحت الشارقة واحدةً من أهم المراكز الثقافية العالمية، وارتبط اسمها بنظريات التنمية المستندة للثقافة والاستثمار فى المعارف والمهارات البشرية.
أوجه الشبه بين معرض الشارقة الدولى للكتاب، والأنهار لا تنتهي، وقد تحتاج إلى كتب عدة لتبيانها وتحليلها وتحديد نتائجها، لكن هناك جانبان أساسيان فى هذا التشابه، من الضرورى إضافتهما على ذكرناه سابقاً فى هذه المقالة، وهما الأصالة والتراكمية، فمشروع الشارقة الثقافى الذى بدأ بالمعرض لتتفرع منه جداول عذبة متعددة التخصصات، هو تجربة أصيلة وخاصة جداً بالشارقة، لا تنفصل ولا تبتعد ولو قليلاً عن طموح مجتمع الإمارة وسماته، وعلى الرغم من كونها منفتحة على تجارب العالم وتستفيد منها، إلا أنها فى العمق والجوهر تجربة لها فرادتها وشخصيتها المستقلة، نتجت عن تفاعل المجتمع مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية التى تشكلت عبر مسيرة عقودٍ طويلة، وسنظل نفخر بهذه الأصالة فى كل مرة نرى تجربة عربية أو عالمية تنمو وتتشكل بتأثير من نموذجنا الخاص.
الجانب الآخر، وهو الفعل التراكمى لمعرض الشارقة الدولى للكتاب، وهنا علينا التأكيد أن المشاريع الثقافية الكبرى لا تظهر من الفراغ، ونتائجها لا تتحقق بين يوم وليلة، بل تفعل ما يفعله النهر، يبث مائه للأرض عبر السنين، فتزداد خصباً لتنمو البذور وتصبح أشجاراً، ثم تطرح ثمراً يجذب الناس لترسى قواعد حضارتها على ضفافه.
سيستمر نهر الشارقة العذب فى الجريان، لقد حفر مكانته ومجراه عميقاً فى وجدان المنطقة وذاكرتها، وأصبح عنواناً للثقافة العربية ورمزاً لقدرتها على الحضور المؤثر فى ثقافات العالم، ذلك الحضور الندى الذى يضيف قبل أن يأخذ، ويؤثر قبل أن يتأثر، يصنع الدهشة لدى كل من يشاهده ويتابعه، ويذكر العالم بتاريخ مفعم بالفخر، كنا فيه سادة العلوم والفنون واللغة والأدب، ويروى حكاية مستقبل يؤسس له الأن، وتروى جذوره بمياه نهر الشارقة العذب.