رحل عمر بن عبد العزيز، وكان رحيله خسارة كبرى، لا يزال المسلمون يتحدثون عنها، فقد كان رجلا زاهدا نقيا، ولكن اختلفوا في سبب وفاته، فما الذى يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "ذكر سبب وفاته رحمه الله":
كان سببها السل، وقيل: سببها أن مولى له سمه فى طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمت يوم سقيت السّم، ثم استدعى مولاه الذى سقاه، فقال له: ويحك!! ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ألف دينار أعطيتها. فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها فى بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك، ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أنّ شفائى أن أمسّ شحمة أذني، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثنى عشر - ألا توصى لهم بشيء فإنهم فقراء؟ فقال: { إِنَّ وَلِيِّى اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه.
وفى رواية: فلا أبالى فى أى واد هلك.
وفى رواية: أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت؟ ما كنت لأفعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام، ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس فى سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأن عمر وكَّل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم فى شهوات أولادهم.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص، وكانت مدة مرضه عشرين يوما، ولما احتضر قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: إلهى أنا الذى أمرتنى فقصرت، ونهيتنى فعصيت، ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إنى لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفى رواية أنه قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التى ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83] ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوى إلى القبلة وقبض.