فى العمق من كل كاتب مسلماتُ تقود إبداعه؛ نوع من "نحو" التأليف عنده، لن تعدمه مع عالم عزت القمحاوي بين الانشغال بالعولمة ومفرداتها، والإدراك المؤلم وقلة فاعليته، واللغة ومدى مراوغتها مع خليط من فاعلية المباشرة، ربما أورثته الصحافة بعضا منها. وعلى هذ النحو فلا عمل عنده يصح التعامل معه إلا بالحفر في طبقاته. أنت أمام صائغ يلهيك عن صناعته بها.
عن الحالة القمحاوية سليلة الشعر
أغلب الظن أن نسل عزت القمحاوى يمتد للأسلاف القدامى المتحدثين عن "عيار" الشعر، كل شيء عند قلمه بمقدار، ولهذا فمن العسير أن يتهمه أحد بالثرثرة في المجالس، لكنه يستطيع صياغة الجلسة في كلمة أو حكاية هو عليها قدير. مقادير يضعها بعناية كأنّ الكتابة عنده مسابقة للتذوق والطعم قبل أن تكون حرفة وعملا. يستطيع أن يُقسم نفسه في جسوم كثيرة- كما كان الشاعر القديم يقول- فيشرف على جريدة أو ينقل مجلة للذرا من العدم، ولا يتأخر يوما عن مقاله الأسبوعي حين كان يكتب مقالين كبيرين بالمصري اليوم وأخبار. لا يغير رونق كتابته كما لا يغير انجذابه للزرع فرعا عن ولعه بالرعاية للفكرة، بذرة بسيطة تماما كما يقيم معظم كتابه الفريد: الأيك في المباهج والأحزان على لفتات بسيطة من خشاش الأشياء الملقاة في الطريق، يقلبها ويهجنها حتى ترى الإصبع الصغير بأحوال متضخمة، وشديدة التفاوت فيعيدها خلقا من بعد خلق. ويسير في إبداعه على النسق ذاته فتستوي لديه معالجة قضية كبرى كالعولمة في روايته "البحر خلف الستائر" مع قضية قد تبدو ذاتية في رواية "يكفي أننا معا" .
يستوى لديه الحس الرومانسى ويقطره بداية من معناها البسيط فى تجريد الأسى مع خط الصداقة في روايته "غرفة ترى النيل"، ومدى الأسى الذي يثيره ضعف الصديق تجاه صديقه الذي يعتصره الموت بطيئا.
ويدشن عنوان روايته" يكفي أننا معا" لرومانسية حانية، تجاوزها الزمن، ولكنها تتماشى مع أطياف شخصياتها؛ حيث تدور الرواية حول "جمال" بكل ما يؤسس له الاسم من جعجعة فارغة أو بطولة مثالية أو أحلام مجهضة أو احتواء للأسرة الكبيرة. اختر ما شئت فكل هذا مقبول مع المحامي "جمال". يؤسس منذ مطلع الرواية لصورة محامِ باطنه الرحمة يستعذب فرار الموكلات من مكتبه، وعودتهن إلى بيوت الزوجية التي جئن لهدمها في مكتبه، ويقنع من إقامته في المكتب بقراءة رواية، وضرب مثله الأفضل" لن تستطيع حمل بطيختين"، وهي الأمثولة التي تعود لوعيه الباطن في مواقف عدة منها أساه على إهدار حياته فداء لإخوته منذ الليلة التي فرد فيها ذراعيه ليحتوي إخوته ليلة وفاة أمه التي ماتت بعد أبيه مباشرة، صارفا حياته لهم.
ولأن بطل الرواية هو رجل من مجاز؛ فكانت الرشاقة التي تعنيه قبل خديجة هي رشاقة الجملة، بما سمح بدخول تعبيرات غاية في البيان، مثل: " نساء البرزخ"؛ للنسوة اللاتي يتقيم معهن علاقة عارضة خلال قضاياهن، ومواعدات الصباح يسميها "إفطار عمل"، بينما القول بتأثير ضعف الزوج جنسيا يسميه" السلاح المحرم دوليا". وهذه وغيرها ليست مجرد ألعاب لغوية ولكنها تعكس ميل الشخصية إلى الاختصار، والحسم، ولا يبتعد ذلك عن تعبيره بالتاريخ وشخوصه، واستخدام "روايات" تاريخية للإيماء لأحداث محورية في الرواية. تعانق التاريخ والبلاغة فكانت شخصية مبررة دراميا لقراراته المتتابعة.
يغيب ذلك عنه في ركضه من الحب، إذ يفترض الحب نوعا من المواجهة يفتقدها المحامي منذ مواجهة"عبلة"التيرأى الحب في عينيها فهرب منها، لنتأكد أن مجازاته الحياتية واللغوية كانت مناورة لتزيين هروبه، وكونه في الأمام لأنه يركض هربا، ولعل هذا ما جعل الاسترجاعات محدودة والاستباقات كثيرة، حتى التاريخ الشخصي صار الهروب منه مشروعا عند أبطال الرواية.
يهتم جمال بالجوهر دون العرض، وبالقيم دون ثمنها(حكايته مع سمك البريوني الرخيص الذي يتغذى على الجمبري)على العكس من شخصية حبيبته خديجة الأرستقراطية، التي تقوم حياتها على المظهر، ومنها دراستها التي تحمل في باطنها نزعة شكلية للغاية؛ إذ تهتم بالعلاقة بين عمارة المحاكم والنظام السياسي.
تؤكد الرواية على التباينات بين البطلين حتى على مستوى استدعاءات الأماكن بين مصر وأوروبا تظهر أنهما من عالمين مختلفين، وأيديولوجيتين متباينتين وأن هذين العالمين من الصعب أن ينجحا في الاندماج حتى وإن التقيا لفترة.
إن هذا يتوازى مع مقارنات المحامى الذى يحمل البلد فى وجدانه دائما، فيقارن بين .."أنا كابري" والموسكي، أو بين بعض مظاهر "الكوليسيوم" ومحترفي الحنطور في الأهرامات، ويتذكر حارات خان الخليلي إذا استحمت، بينما هي رافضة دوما لهذه المقارنات. وعليه أن نفهم صعوبة اللقاء بينه وبين خديجة ليست فقط بسبب عامل السن وفرق العمر، فضلا عن أنه قد أدمن الفرار من إكمال القصة، وعليه فقد نفهم مرض البواسير الذي اعتراه نوعا من عكس الموضع الجنسي، وإشارة إلى تنازله عن السلطة مطلقا، وتركيزا على عكس موضعها، أو تعبيرا عن انعكاس الذكورة أو اختفائها أو انقلابها بتعبير واضح وصريح.
وعلى العكس مما يفترض في اسم "خديجة" وإحالته إلى سيدة تختار شابا صغيرا تتوكأ عليه أو تقع في حبه. صحيح أنها من طبقة أعلى كما في الحكاية الدينية وصحيح أنها المبادرة بابتداء العلاقة غير أنها شابة اختار قلبها حب عجوز اشتراكي النزعة، بينما هي شابة أرستقراطية من مجتمع مخملي، فكانت علاقتهما محكوما عليها بسرعة الانتهاء لصعوبة الجمع بين عالمين من الممكن أن يلتقيا ومن العسير أن يستمر اللقاء.
تبدو المفارقة مع الوطن حاضرة عنده للأبد، وقد ترى في بعض فقرات الرواية نوعا من صراع أزلي بين اليمين واليسار، وفي المواقف الحادة الاختلاف تعرض الرواية عن بيان رد فعل المحامي، ربما استباقا لعدم الاكتراث بالتوحد معها، أو انعكاسا لقلقه المبدئي من العلاقة وتوجسه من ديمومتها. وهو ما يتكون عبر استكشاف صعوبة اللقاء بين خديجة والمحامي، وبين والدة" ألدو" صاحب محل العطور، والرجل الشرقي الذي جاء من جدة.
جاءت شخصية خديجة مقارعة لثراء شخصية جمال، فجاءت مسطحة، وتهتم بالشكل وهو الذي جذب المحامي نحوها حين يقارنها بنساء البرزخ، تغتني- في إلماحات سريعةلم يهتم النص بتعميقها- عقدة إلكترا التي تحب صورة الأب، ولا تدخل إلى عمق شخصية حبيبها أو حياته ولا تهتم بتواصله مع أسرته وهو يبادلها التعرف عليها سطحيا، وتمارس الغيرة عليه، ثم يدخل المحامي في مقارنة مع غيره، وهذه المقارنة تعني تدهور علاقة الحب. وكذا الاسترجاع الذي يوضح ترددها وقتما تتذكر نصيحة صديقتها التي تحذرها مجاورة المسنين.
ويقدم النص بطلته بصورة غير عاطلة من الجمال أو المال أو المكانة أو العلم أو الطموح بما لا يطعن على أنوثتها من أي جانب إلا الجانب الفارق وهو الإنجاب، والذي يدخل اهتماماتها مع جمال، كما أنها تلعب دور المبادرة الذي يقتصر– حتى الآن- على الرجال، لتجعلنا أمام إعجاب حقيقي يزيده مصداقية ما ارتبط به من انجذاب جنسي.
وانصرفت الرواية إلى سرد قريب من أدب الرحلة على معنى استكشاف أنفسنا من خلال الآخر، فبدت مغامراتهما في "روما"وغيرها نوعا من البحث عن الحرية ووجها لها، يستطيع فعل ما يصعب مقاربته في بقعتنا الصفراء من العالم. لقد احتاج اللقاء بينهما إلى الخروج من المكان وهو الأقل سطوة وحضورا من الزمان الحائل بينهما، فهل أراد الإيماء لذلك عبر الاهتمام بزيارة المتاحف، والمتحف تثبيت للزمن، والتعامل معه بوصفه مكانا يختلف عن النظر إليه بوصفه زمانا. الرحلة استكشاف للذات عبر الآخر، وعبر ماضيها الذاتي تارة أخرى.
جاءت الرواية في 28 فصلا وكأن الرواية كشهر فبراير المميز بقصره وأحداثه وارتباطه ببدايات دخول الربيع، ليس شهرا عاديا، برغم- وربما بسبب- سرعته، تماما كقصة الحب بين جمال وخديجة سريعة النبت والتطور والانتهاء، تؤكدها محاولة القمحاوي مناورتنا بالهيكل الكلاسيكي الثابت: استهلال مباشر واضح، ثم متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.
يشعر الراوي بحقه في امتلاك البطل حتى جاء التعليق الختامي للرواية حول تحقق مختلف لأمثولة "كابري" التي يأتيها العاشقان فيغادران ثلاثة؛ ليؤكد أن القصة ستستمر وتتكرر، كما ستتكرر الأمثولة الأخرى حول حمل البطيخ، وهي نزعة توجيهية لتفسير القراء بوضع تعليق ختامي للمواقف في آخر القصة. وقد حملت هذه النهاية تنافرا مع صورة نساء البرزخ الأثيرة لديه، وتوميء إلى تحول الأنثى عن المرأة المخدوعة إلى الخادعة، وهو الذي يلتفت لذلك ولا تخدعه نظراتها، لتطرح شكلا آخر من جماليات الإذعان.
وقد اختار القمحاوي أن يكون الزمن عاملا في تأسيس العلاقات ذاتها ليس فقط بسبب اهتمام خديجة بعمارة المحاكم ومدى تطورها بفعل الزمن ولكن لأنها وقعت على التواصل معه من خلال تطبيقات إلكترونية ربطت بين بروكسل والقاهرة-ظاهريا- حتى أصبحت بديلا عن الشعبية التي ارتبطت ببعض قصص الحب. إنه يؤسس لكون التواصل السري بينهما كان مفضيا لانغلاق التجربة لا حميميتها، وأن انكشاف العلاقة كان مؤذنا بانهيارها، على الرغم من انتقال الولع بالتصوير وتثبيت اللحظة إلى جمال نفسه.
إن البطولة البلاغية التي يمارسها"جمال" في كتابة مرافعاته قد تآزرت مع تحلية هروبه من المواجهة، كما كانت الرحلة وسيلة لتوكيد صعوبة اللقاء بينهما، على العكس مما يفترض فيها، تماما كما أسهمت رهافة الحوار وتركيزه على مدى الرواية في توكيد عظمتها حين خاصمت العادي والمطروح الآن من" نزوات" سياسية تورطت فيها روايات كثيرة لم تغن الفن، ولم تسمنه من جوع.