بدأت الدعوة العباسية تظهر للعلن فى سنة 129 هجرية، حيث قاد أبو مسلم الخرسانى الجموع معلنًا الدعوة لبنى العباس، فما الذى يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "أول ظهور أبى مسلم الخراسانى":
وفى هذه السنة: ورد كتاب إبراهيم بن محمد الإمام العباسى بطلب أبى مسلم الخراسانى من خراسان، فسار إليه فى سبعين من النقباء لا يمرون ببلد إلا سألوهم: إلى أين تذهبون؟
فيقول أبو مسلم: نريد الحج.
وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق جاء كتاب ثان من إبراهيم الإمام إلى أبى مسلم: إنى بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شيب أن يسير بما معه من الأموال والتحف إلى إبراهيم الإمام فيوافيه فى الموسم.
فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان فى أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه: أن أظهر دعوتك ولا تتربص.
فقدموا عليهم أبا مسلم الخراسانى داعيا إلى بنى العباس، فبعث أبو مسلم دعاته فى بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة فى طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبى مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده فى يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوما ففتحت على يديه أقاليم كثيرة.
ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان فى هذه السنة: عقد أبو مسلم اللواء الذى بعثه إليه الإمام، ويدعى: الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التى بعث بها الإمام أيضا، وتدعى: السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].
ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى الدعوة السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا فى هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.
ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب: أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الأخرى بالظل: أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم.
وأقبل الناس إلى أبى مسلم من كل جانب، وكثر جيشه.
ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى بالناس، ونصب له منبرا، وأن يخالف فى ذلك بنى أمية، ويعمل بالسنة، فنودى للصلاة: الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافا لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستا فى الأولى قبل القراءة لا أربعا، وخمسا فى الثانية لا ثلاثا خلافا لهم.
وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلم طعاما فوضعه بين يدى الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتابا بدأ فيه بنفسه ثم قال:
إلى نصر بن سيار. بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن الله عيَّر أقواما فى كتابه فقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ } إلى قوله { تَحْوِيلا } [فاطر: 42-43] .
فعظم على نصر أن قدَّم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال: هذا كتاب له جواب.
قال ابن جرير: ثم بعث نصر بن سيار خيلا عظيمةً لمحاربة أبى مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهرا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله ﷺ فأبوا ذلك فتصافَّوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد فقوى فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بنى العباس وجند بنى أمية.
وفى هذه السنة: غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو: بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبى مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شابا حدثا قد اختاره إبراهيم لدعوتهم، وذلك لشهامته وصرامته وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لإدريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بنى العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن على ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبى النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه، وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا فى السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكَّد الإمام كتابه إليهم فى الوصاة به وطاعته، وكان فى ذلك الخير له ولهم، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا } [الأحزاب: 38] .
ولما فشا أمر أبى مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرمانى وشيبان لأنهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبى مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرمانى يعلمه بذلك فلام الكرمانى شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبى مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هاربا، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرمانى إلى أبى مسلم: أنى معك على قتال نصر.
وركب أبو مسلم فى خدمة الكرماني، فاتفقا على حرب نصر ومخالفته.
وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالا.
وجعل القاسم بن مجاشع التميمى - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلى بأبى مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بنى هاشم ويذم بنى أمية، ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها: بالين، وكان فى مكان منخفض، فخشى أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك فى سادس ذى الحجة من هذه السنة، وصلى بهم يوم النحر القاضى القاسم بن مجاشع.