لم يعد من الممكن أن يجادل أحدٌ من المتابعين لفن الشعر الملاحظين لتحولاته وحِراكه الفنّى الدءوب أن يمارى فى أنّ الشعر طرق متعددة وأساليب متنوعة، وأنّ هذا التّنوع الرحيب، هو ما يمنح الشعر ثراءه وجاذبيته وقدرته على أن يحظى بالمتابعة المتجددة من محبّيه ومتخصصيه على الأقل، لكن الإشكاليّة الكبرى فى تلقّى الشعر الآن تكمن فى عدم قدرة الكثيرين- ولا أبرئ أغلب المتخصصين- على التقاط شفرات التّنوع، وتأمّل خصوصيّات كل منزع شعرى جديد، أو حتّى تأمّل التّحولات التى أحدثها بعض الشعراء الموهوبين فى مسارات القصيدة البيتيّة العموديّة، أو القصيدة التفعيليّة الحرّة، فضلًا عن القدرة على تأمّل التحولات وتغاير المسارات التى سلكتها قصيدة النثر فى الآونة الأخيرة وتقييم التجربة بوعى نقدى متمرّس لا يسقط فى فخ الانحياز المغلق أو مقولات مرجعيّات التّذوق السابقة المستقرة فى آليّات التّعامل مع النّصوص الشعريّة المحدثة، أو المقولات النظريّة الشهيرة التى شاعت باعتبارها انعكاسًا لأفكار ورؤى أفرزتها الخطابات الشعريّة المعاصرة، منذ أكثر من خمسين عامًا.
أجل، للشعر الأصيل قيم راسخة ومسلّمات بدهيّة لا تكاد تختلف عبر العصور، تؤكّد أنّ الشعر مساءلة حيويّة للوجود، وأنّه رؤية متفردة فى صياغة متفردة، وأنّه يُسهم فى فهم مشاعرنا الإنسانيّة على نحو أفضل، وأنّه يثري-باستمرار- تصوراتنا عن الإنسان والمجتمع والطبيعة والعالم، وأنّه يجعلنا ننظر بعيون أكثر نفاذًا وبأحداق أكثر اتّساعًا، وأنّه يعبّر عن حالة دراميّة مكتملة لا فكرة نثريّة عابرة، وأنّه يتوسّل بأدواته الفنيّة المعروفة التى يحويها تشكيله اللغوى المغاير، ليجسّد إحساسه الذّاتى بالقضايا الحياتيّة المعيشة والقضايا الكونيّة الكبرى.
كلّ ذلك- أو غيره- معلوم من الشعر بالضرورة، ولكن ماذا عن حساسيّة اللحظة العصريّة الراهنة التى تحتاج إلى أنماط ورؤى وتصورات وصياغات جديدة تتفاعل بجدل حيوى معها فى فضاء حضارى مقتحم لا يكفّ عن التّحرك والتأثير والتغيير فى طوائف المبدعين والفنّانين بعامة، وليس الشعراء فقط؟
وماذا عن شرعيّة الإضافة التى يحلم بها كلّ شاعر أصيل حريص على انتمائه إلى مورثه الشعرى الممتد بقدر حرصه على فرادة صوته الخاص وأصالة عالمه الشعري؟ أما آن للنقّاد أن يتخفّفوا من ثيابهم الأكاديميّة الضيّقة التى يرتدونها خلف أسوار الجامعة، وينطلقوا إلى فضاء الشعر الرحب الذى يسكن فى الحياة بعيدًا عن الأسوار؟!