عرفت الساحة الفكرية في مصر، العديد من المعارك الثقافية فهي ممتدة منذ قديم، لعل من أبرزها ما حدث مع الدكتور طه حسين، وكتابه "في الشعر الجاهلي".
أصدر الدكتور طه حسين (1889-1973) كتابه المثير للجدل "فى الشعر الجاهلى" سنة 1926 وجاء فى كتابه أن الأدب العربى فى الخمسين سنة الأخيرة، قد انحدر وأصابه المسخ والتشويه بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون، وهذا أمر ليس خليقًا بأمة كالأمة المصرية كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، عصمت الأدب اليونانى من الضياع، وحمت الأدب العربى من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر.
وقال طه حسين فى الكتاب: اللغة العربية لغة مقدسة لأنها لغة القرآن الكريم والدين. ولأنها مقدسة فهى لا تخضع للبحث العلمى الصحيح الذى قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير. أما طه حسين فيريد أن يكون تدريس اللغة العربية وآدابها شأن العلوم التى ظفرت بحريتها من قبل. فدراسة الأدب العربى اليوم تقتصر على مدح أهل السنة وذم المعتزلة والشيعة والخوارج والكفار. وليس فى ذلك شأن ولا منفعة ولا غاية علمية بالنسبة لأدب اللغة العربية. فالأدب العربى شيء والتبشير بالإسلام شيء آخر. فمثلاً إذا أمرت السلطة السياسية الكتاب والمؤرخين أن تكون كتاباتهم ودراساتهم مقصورة على تأييد السلطة السياسية، أليس الكتاب جميعاً- إن كانوا خليقين بهذا الاسم- يؤثرون أن يبيعوا الفول والكراث على أن يكونوا أدوات فى أيدى الساسة، ويفسدون بهم العلم والأخلاق.
وأضاف: "لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم فى الأدب باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء فى الفقه، والمتكلمون فى الكلام. فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة. وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل. وما زال إمرؤ القيس صاحبَ قصيدة "قفا نبك..."، وطرفة صاحبَ "لخولة أطلال..."، وعمرُ بن كلثوم "ألا هبى..."، لكننى -والكلام هنا لطه حسين- شككت فى قيمة الأدب الجاهلى، وألححت فى الشك، وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية فى شيء، إنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام".
"ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف فى هذه المسألة هو بحث علمى لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه.. حيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك، تحفظ الأوراق إداريا".. كان ذلك جانبا من التقرير الذى كتبه "محمد نور" الذى كان يحقق مع الدكتور طه حسين حول كتابه "فى الشعر الجاهلى" الذى أثار أزمة كبرى فى عشرينيات القرن الماضى، وتظل هذه القضية نموذجا يحتذى به عبر العصور فى التعامل مع الفكر والثقافة والبحث العلمى، هذا ما أراد أن يقوله الروائى الكبير خيرى شلبى فى كتابه "محاكمة طه حسين" والذى أعادت جريدة القاهرة بالاشتراك مع الهيئة المصرية العامة للكتاب نشره فى عددها الأخير.
وفى يوم 30 مايو سنة 1926 تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر ببلاغ للنائب العام يتهم فيه الدكتور طه حسين "الأستاذ بالجامعة المصرية" بأنه ألف كتابا أسماه "فى الشعر الجاهلى" ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن.
وكان من الممكن أن يحفظ هذا البلاغ ولا يلقى اهتماما مذكورا لولا أنه "بتاريخ 5 يونيو سنة 1926 أرسل شيخ الجامع الأزهر للنائب العام خطابا يبلغه له به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس الجامعة المصرية أسماه "فى الشعر الجاهلى" كذب فيه القرآن.
وقدر رصد الكاتب الراحل خيرى شلبى هذه المعركة من خلال كتابه "محاكمة طه حسين" والكتاب فى مجمله هو نص التحقيقات التى أجراها النائب "محمد نور" مع الدكتور طه حسين فى سنة 1926 بعد البلاغات التى قدمت من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر، ومن شيوخ الجامع الأزهر، ومن عبد الحميد البنان عضو مجلس النواب، يتهمون فيها الدكتور "طه" بأنه نشر ووزع وعرض للبيع فى المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه "فى الشعر الجاهلى" طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامى.
وما يلفت النظر بداية أن هذه البلاغات قدمت من الفترة ما بين 30 مايو 1926 و14 سبتمبر من العام نفسه، لكن النائب العام انتظر مجيء الدكتور طه حسين الذى كان خارج مصر فى 19 أكتوبر وبدأ بعدها التحقيق.
ونص التحقيق الذى نشره كتاب خيرى شلبى يدل على الثقافة التى كان يتمتع بها "محمد نور" الذى لم يستبعد "شلبي" أنها نتاج ما أحدثه طه حسين فى الشارع المصرى من حراك ثقافي، وانتهى الأمر ببراءة الدكتور طه حسين مما نسب إليه.