بنى أبو جعفر المنصور فى سنة 146 مدينة بغداد، التى صارت واحدة من حواضر الدول الإسلامية، فما الذى يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير "ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة"
فيها: تكامل بناء مدينة السلام ببغداد، وسكنها المنصور فى صفر من هذه السنة، وكان مقيما قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع فى بنائها فى السنة الخارجة، وقيل: فى سنة أربع وأربعين ومائة، فالله أعلم.
وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بقيت منهم بقية فخشى على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعا لبناء مدينة، فسار فى الأرض حتى بلغ الجزيرة، فلم ير موضعا أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذى هى فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله فى البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر.
وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالى فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان فى موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلا بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى فى طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالا وصناعا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون ذراعا، وجعل لها ثمانية أبواب فى السور البراني، ومثلها فى الجوانى، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذى يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل: سميت بذلك لانحراف دجلة عندها.
وبنى قصر الإمارة فى وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذى وضع قبلته الحجاج بن أرطأة.
وقال ابن جرير: ويقال: إن فى قبلته انحرافا يحتاج المصلى فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بنى قبل القصر، وجامع المدينة بنى على القصر، فاختلت بسبب ذلك.
وذكر ابن جرير، عن سليمان بن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلى الخندق، وكان استتمامه فى سنة أربع وأربعين ومائة.
قال ابن جرير: وذكر عن الهيثم بن عدي: أن المنصور عرض على أبى حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبى جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك.
وذكر أن خالد بن برمك هو الذى أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثا فيها للصناع، وقد شاور المنصور الأمراء فى نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الإمارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية فى العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب.
فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا، فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف فى حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الإمارة ببغداد.
وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهى حجارة هائلة.
وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الإمارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم فى بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعا فى أربعين ذراعا، ومن بنى فى شيء من ذلك هدم.
قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت فى خزائن المنصور فى الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة.
قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك فى بعض الكتب، وحكى عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف، فالله أعلم.
وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذى بنى له بيتا حسنا فى قصر الإمارة فنقصه درهما عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذى كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحا.
قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف فى أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها فى وقت اختاره له نوبخت المنجم.