بعد صلح الرملة سار صلاح الدين الأيوبى إلى بيت المقدس وأمر بإجراء عدة إصلاحات وتنظيمات، ثم سار قاصدا دمشق فوصلها فى (25 شوال 588هـ).
ولم يعمر صلاح الدين طويلا بعد صلح الرملة، فقد وافاه الأجل وهو بدمشق فأسلم الروح في (27 صفر589هـ الموافق 4 مارس 1193م).. لكن كيف كانت الأيام الأخيرة فى حياة صلاح الدين الأيوبى؟
يقول كتاب "صلاح الدين الأيوبى" لـ على محمد الصلابى:
لما كانت ليلة السبت وجد كسلا عظيما فما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية كانت فى بطنه أكثر منها فى ظهره، وأصبح يوم السبت سادس عشر صفر عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضر عنده القاضى ابن شداد والقاضى الفاضل ودخل ولده الأفضل ، قال القاضى ابن شداد وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا والقلوب عنده.
وقد مد الطعام وولده الأفضل قد جلس فى موضعه فانصرفت، وما كان لى قوة للجلوس استيحاشا وبكى فى ذلك اليوم جماعة تفاؤلا بجلوس ولده فى موضعه، ثم أخذ المرض فى تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردد في طرفي النهار، وأدخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مرارا، ويعطي الطريق في بعض الأيام التى يجد فيها خفة، وكان مرضه فى رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذى كان قد ألف مزاجه سفرا وحضرا، ورأى الأطباء فصده ففصدوه فى الرابع، فاشتد مرضه، وقلت رطوبات بدنه وكان يغلبه النفس غلبة عظيمة، ولم يزل المرض فى تزاايد حتى انتهى إلى غاية الضعف، ولقد أجلسناه فى السادس من مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماء فاتر يشربه عقيب شراب يلين الطبع فشربه فوجده شديد الحرارة فشكى من شدة حره، فغير وعرض عليه ثانيا فشكى من برده، ولم يغضب، ولم يصخب رحمه الله، ولم يقل سوى هذه الكلمات "سبحان لله لا يمكن لأحد تعديل الماء" فخرجت أنا والقاضى من عنده وقد اشتد منا البكاء، والقاضى الفاضل يقول لى "أبصر هذه الأخلاق التى قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أن هذا بعض الناس كان قد ضرب القدح رأس من أحضره.
واشتد مرضه فى السادس والسابع والثامن، ولم يزل متزايدا وتغيب ذهنه، ولما كان التاسع حدثت به رعشة وامتنع من تناول المشروب واشتد الإرحاف فى البلد وخاف الناس، ونقلوا الأقمشة من الأسواق، وغشى الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن تخيله.
وقد كنت أنا والقاضى الفاضل نقعد كل ليلة إلى أن يمضى من الليل ثلثه أو قريب منه ثم نحضر من باب الدار فإن وجدنا طريقا دخلنا وشاهدناه وانصرفنا وإلا تعرفنا أحواله وانصرفنا، وكنا نجد الناس يرتقبون خروجنا من بيوتنا حتى يقرأوا أحواله من صفحات وجوهنا.
ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقنة راحة وحصل بعض الخف وتناول من ماء الشعير مقدارا صالحا وفرح الناس فرحا شديدا، فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع ثم أتينا باب الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالا ، فالتمسننا منه تعريف الحالة المتجددة فدخل ثم أنفذ إلينا مع الملك المعظم توران شاه يقول إن العرق قد أخذ فى ساقيه، فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا من أن يمس بقية بدنه ويخبرنا بحاله فى العرق، فافتقده ثم خرج إلينا وذكر أن العرق سابغ فشكرنا الله تعالى على ذلك، وانصرفنا طيبة قلوبنا، ثم أصبحنا فى الحادى عشر من مرضه وهو يوم الثلاثاء السادس والعشرين من صفر، حضرنا بالباب وسألنا عن الأحوال فأخبرنا أن العرق أفرط حتى نفذ فى الفرش ثم فى الحصر وتأثرت به الأرض وأن اليبس قد تزايد تزايدا عظيما وخارت القوة واستشعر الأطباء.
ولما كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مائة، وهى الليلة الثانية عشرة من مرضه اشتد مرضه وضعفت قوته ووقع فى أوائل الأمر من أول الليل وحال بيننا وبينه النساء واستحضرت أنا والقاضى الفاضل فى تلك الليلة وابن الزكى ولم يكن عادته الحضور فى ذلك الوقت، وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده فلم ير القاضى الفاضل ذلك رأيا، فإن الناس كانوا فى كل ليلة ينتظرون نزولنا فى القلعة فخاف ألا ننزل فيقع الصوت فى البلد، وربما نهب الناس بعضهم بعضا، ورأى المصلحة فى نزولنا واستحضار الشيخ أبى جعفر إمام الكلاسة، وهو رجل صالح يبيت فى القلعة، حتى إن احتضر بالليل حضر عنده، وحال بينه وبين النساء، وذكره بالشهادة وذكر الله تعالى، ففعل ونزلنا وكل منا يود فداءه بنفسه وبات فى تلك الليلة رحمة الله عليه على حل حال المنتقلين إلى الله تعالى والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن ويذكره بالله تعالى وكان ذهنه غائبا من ليلة التاسع ولا يكاد يفيق إلا فى الأحيان وذكر الشيخ أبو جعفر أنه لما انتهى إلى قوله تعالى "هو الله الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة" سمعه وهو يقول "صحيح" وهذه يقظة فى وقت الحاجة، وعناية من الله تعالى به، فلله الحمد على ذلك، وكانت وفاته رحمة الله عليه، بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء سابع وعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.