استمرت المرأة، عبر التاريخ، تحمل لواء تحريرها باحثة عن مكانتها التى تليق بها، كونها نصف المجتمع، وإلى جانب الحضارات القديمة وتصوراتها التى اطلعنا عليها فى الحلقة السابقة من "مسيرة طويلة نحو التمكين" وجب علينا التحرك ناحية الأديان، خاصة أن الأديان السماوية كانت لها بصمة قوية فى تشكيل المرأة ورسم صورتها التى وصلت إلينا الآن.
ويمكن القول: إنه من الموضوعات الأساسية فى دراسات الأديان مكانة المرأة والتشريعات التى متعلقة بها، ووضعها التاريخى، وكيف نظرت النصوص المقدسة إليها، وكيف توقف أمامها المفسرون ورجال الدين.. وهنا نتأمل موقف الديانات الإبراهيمية من هذه القضية، معتمدين على مقدمة كتاب "بنات إبراهيم.. الفكر النسوى فى اليهودية، والمسيحية، والإسلام" تحرير إيفون يازبيك حداد وجون اسبوزيتو، ترجمة عمرو بسيونى وهشام سمير.
المرأة فى اليهودية
إذا تطرقنا إلى اليهودية وموضع المرأة منها، من خلال العهد القديم، فيمكن أن نقول إن التصور اليهودى للمرأة يتمحور حول لحظة البداية، لحظة الخطية "التى فى الإثم ولدت وفى الخطيئة حبلت بى" مزمور 51: 7، وهى سبب الفتنة المستمرة، هى باختصار كما يصفها سفر الجامعة "شباك، وقلبها شراك، ويدها قيود" (الجامعة 7: 26).
واعتبرت الديانة اليهودية المرأة مصدرا للإثم، وحملتها التوراة غواية آدم، وإخراجه من الجنة، وجعلته يتملص من المسؤولية، حسبما يقول كاظم حجاج فى كتابه "المرأة والجنس بين الأساطير والتراث" كل تلك التصورات انعكست على الفقه اليهودى، الذى شهد تشديدات كبيرة على الحائض والمستحاضة والنفساء، فيعتبرها نجسة، وكل ما يتصل بها نجسا إلى المساء "وإذا كانت امرأة لها سيل، وكان سيلها دما فى لحمهاـ فسبعة أيام تكون فى طمثها، وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضجع عليه فى طمثها يكون نجسا وكل ما تجلس عليه يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابا ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام وكل فراش يضجع عليه يكون نجسا، وإذا كانت امرأة يسيل سيل دمها أياما كثيرة فى غير وقت طمثها أو سال بعد طمثها فتكون كل أيام سيلان نجاستها كما فى أيام طمثها أنها نجسة، كل فرش تضجع كل أيام سيلها يكون لها كفراش طمثها وكل الأمتعة التى تجلس عليها تكون نجسة كنجاسة طمثها، وكل من مسهن يكون نجسا فيغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء" (اللاويين 15: 19-27).
المرأة فى المسيحية
فى الديانة المسيحية نحن إزاء منظورين متقابلين للمرأة من جهة التصور والماهية، تصور المسيح، وتصور بولس.
الأول يمثله نص "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر "يوحنا 8: 7".
الثانى يقدمه نص: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رومية 5: 1)، لقد كانت علاقة المسيح بالنساء ممتازة، آمن به، واتخذهن صحابيات وتلميذات وتابعات.
أما مع بولس، فقد تغير الوضع، حيث المرأة هى المسؤولة عن الخطيئة الأولى، ولها وضع أكثر كمونية بشدة فى المجتمع المسيحى.
ويرى كثير من الباحثين أن بولس هو من أدخل التصورات اليهودية عن المرأة، ومسؤوليتها عن الخطيئة الأصلية، لقد انطبعت تصورات بولس على المسيحية، فاستغرقت جميع حقب المسيحية القديمة والوسطى حتى ثورة عصر النهضة والإصلاح ثم انقلاب التنوير والحداثة.
المرأة فى الإسلام
المرأة فى الإسلام لها شأن كبير جدا، بالطبع لا يمكن إنكار وجود تصورات سلبية عن المرأة، لكنها لا تأتى من القرآن الكريم، بل من بعض التفاسير، التى أوَّلت النصوص المقدسة بما يتفق وعقلية المفسر.
وكى نفهم معنى ذلك فإنه لا بد أن نشرح أن السياق الإسلامى أعم من الوحى، فإنه، وكما يقول ابن تيمية "لفظ الشرع يقال فى عرف الناس على ثلاث معان (الشرع المنزل) وهو ما جاء به الرسول، وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته، والثانى (الشرع المؤول) وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه، فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع عموم الناس عنه".
ويقول كتاب "امرأتنا فى الشريعة" لـ الظاهر الحداد، فى حديثه عن مكتسبات المرأة فى ظل الإسلام:
قاوم الإسلام تشاؤم العرب من البنات وكراهتهن، فقد قال النبى محمد عليه الصلاة والسلام فى معنى التمدح بهن: "أنا أبو البنات" أما وأد البنات تلك العادة الشنيعة الرائجة أيام الجاهلية فقد وأدها الإسلام فى أول ما شرع، فرفع بذلك عن البنات ظلامة كبرى.
وكان الإسلام يواجه الرجل والمرأة سواء، فيفرض عليهما واجباته ويجعل مسؤوليتهما فى ذلك سواء، وللنبى اجتماعات غير منقطعة بالنساء للتبشير بالإسلام، وإفهامهن الواجبات، وحتى للبسط والفكاهة المروحة للنفس مع احترام زائد وتقدير لم يألفنه قبلا فى أخلاق الرجال، مما رفع قلوبهن عن انخفاضها، وحبب إليهن الإسلام، ولم ير النبى الكريم صلوات الله عليه أن أحاديثه المتكررة مع النساء مزرية به ومضيعة لوقته فى غير حاجة كما كان ذلك خلق الجاهلية وكما هو خلقنا إلى اليوم فى تقدير نسائنا، بل كان يريد أن ينير أذهانهن بالعلم والمعرفة حى يتهيأن للحقوق التى اكتسبنها بالإسلام.
ومن الحقوق التى منحها الإسلام للمرأة:
حق الشهادة والقضاء
إن تقدير المرأة لم يقف عند اعتبارها الذاتى، بل ما كان ذلك إلا تمهيدا لما يعطيها الإسلام من الحقوق، فالمرأة التى كان يقر أهلها وحتى زوجها من مجالستها والحديث معها فى غير حاجة فقد ارتفع صوتها بالإسلام حتى وقفت أمام القضاء تشهد على الناس رجالا ونساء فيما لهم وعليهم حتى الدماء.
حق أهلية التصرف
أكثر من ذلك فى تحقيق الشخصية المدنية أن الإسلام يقرر لها أهلية وحق التملك الشخصى، سواء من طريق الميراث أو العمل كالرجل كما هو نص الآية «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن»، فليس ما تكتسبه المرأة جزءا يندمج فى مال أبيها أو زوجها وهى فيه خادمة مسخرة كما كان ذلك فى الجاهلية، وقد صحح معاملاتها مع غير الطالبة أو المطلوبة، وأعطاها أهلية التصرف الكامل فى مالها بيعا وشراء فى تجارة أو غيرها متى بلغت الرشد.
حق حرية الحياة
إن آى الكتاب الكريم ظاهرة فى خطاب الرجل والمرأة سواء: فى أحكامها عامة مقرراتها إلا ما كان نصا فى خطاب الرجال والنساء، وهى تقرر لهما هذه الحقوق المدنية كما تفرض عليهما الواجبات وكما تسوى بينهما فى العقوبات عند ارتكاب الجرائم، هذا ما عليه عامة مذاهب الفقه فى الإسلام.
يمكن القول إن الأديان كانت مشغولة كثيرا بالمرأة ومكانتها، لكن الملاحظة الأخطر، أن صورة المرأة فى النصوص تختلف بدرجة أو بأخرى عن صورتها فى التفاسير، فكثير من التفاسير والآراء ابتعدت عن سماحة الأصل.
وقد عاشت المرأة تحت مظلة الأديان، تدافع عن حقوقها التى منحها الله لها، وواصلت مسيرتها الطويلة نحو حريتها، حتى وصلنا إلى مرحلة جديدة بطلها «الدساتير» وهو ما سنلتقى به فى الحلقة المقبلة من «مسيرة طويلة نحو التمكين».