تحولت بغداد إلى مدينة عالميةفى زمن المهدى، ففيها يقيم الخليفة، وفيها من شيء طرف، كما يقولون، فما الذي جرى فى سنة 166 هجرية، وما الذي يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة ست وستين ومائة":
في المحرم منها: قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.
وفيها: أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب: بالرشيد.
وفيها: سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر والعود
فلما تزل السعادة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الأزاهير، فقال: يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا؟
فقال: يا أمير المؤمنين ! ما رأيت أحسن منه.
فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها.
قلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟
فقال: حتى تقول نعم.
فقلت: نعم ! وعلى السمع والطاعة.
فقال: الله؟
فقلت: ألله.
قال: وحياة رأسي.
قلت: وحياة رأسك.
فقال: ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت.
فقال: إن ههنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
فقلت: نعم.
فقال: وعجل عليّ.
ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشي فرحي بها.
فلما صارت بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجيء به فجلس إليّ فتكلم، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم.
ثم قال لي: يا يعقوب ! تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله ﷺ؟
فقلت: لا والله ! ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت.
فقال: إني أختار بلاد كذا وكذا.
فقلت: اذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك.
فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى، وأنها كالجاسوس عليّ، فبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشيء، فلما دخلت عليه قال: ما فعل العلوي؟
قلت: مات.
قال: ألله !
قلت: ألله.
قال: فضع يدك على رأسي واحلف بحياته، ففعلت.
فقال: يا غلام ! أخرج ما في هذا البيت.
فخرج العلوي فأسقط في يدي، فقال المهدي: دمك لي حلال.
ثم أمر به، فألقي في بئر في المطبق.
قال يعقوب: فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري حتى صرت مثل البهائم، ثم مضيت عليّ مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال: رحم الله المهدي.
فقلت: الهادي؟ فقال: رحم الله الهادي.
فقلت: الرشيد؟ قال: نعم.
فقلت: يا أمير المؤمنين ! قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن تطلقني.
فقال: أين تريد؟ قلت: مكة.
فقال: اذهب راشدا.
فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه الله تعالى.