تمر، فى هذه الأيام، ذكرى استسلام الثائرين من أهالى مصر فى ثورة القاهرة الثانية، وذلك بعد أن سلط عليهم الجنرال كليبر مدافعه وأحرق أحياء القاهرة، وكان ذلك عام 1800م، بعد وقوف المصريين بكل شجاعة ورفض الصلح مع كليبر لأكثر من مرة.
وبدأت الثورة من حى بولاق، لكنها انتشرت مثل النار فى الهشيم فى بقية أحياء المدينة، وتحرك أهالى بولاق متسلحين بالسيوف والبنادق والرماح والعصي، واتجهوا إلى قلعة قنطرة الليمون ليقتحموها، لكن حامية القلعة استطاعت ردهم، فأعاد الثوار ترتيب خطوطهم وأعادوا الهجوم، لكنهم فشلوا أيضاً في اقتحامها، ووقع من الثوار 300 شهيد.
انضم بعض الجنود العثمانيين والمماليك إلى الثورة، بعدما هربوا من معركة عين شمس، ثم توجهت حشود الثوار نحو معسكر القيادة العامة للجيش الفرنسى بمنطقة الأزبكية وحاصروه، واحتلوا المنازل المجاورة له، وتبادلوا المناوشات مع الجنود الفرنسيين، وقد صنع الثوار المصريون بما أتيح لهم من أدوات البارود، كما صنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الحدادين، بل ويذكر أحد مهندسى الجيش الفرنسى أن الثوار استخدموا المدافع، وهو ما ذكره كليبر نفسه.
بعث كليبر يطلب وفدا من العلماء يكون الوسيط بينه وبين الثوار، فجاءه وفد، وعرض عليهم كليبر وقف القتال فى مقابل الأمان، وهذا ما رفضه المصريون، وفى 14 أبريل 1800 أنذر كليبر الثوار، لكنهم تجاهلوه، وفى فجر اليوم التالى بدأ الفرنسيون هجومهم على حى بولاق وبدأت مدفعيتهم تقذف الحى فى غير رحمة، ورغم ذلك وفى هذا البلاء عرض العفو على الثوار فأبوا واستمر القتال، وفجرت الدماء انهارًا من الشوارع واشتملت النار أحياء بولاق من أقصاها إلى أقصاها، وعادت تلك المدينة العمرة الزاهرة هدفا للخراب وأكلتها أهوال الحرب وفظائعها".
استطاعت القوات الفرنسية احتلال حى بولاق في النهاية والقضاء على الثورة، ويصف الجبرتي ما فعلوه بحي بولاق وثواره، فقد هجم الفرنسيون على بولاق من ناحية البحر والبر، وقاتل أخل بولاق باستماتة حتى غلبهم الفرنسيون وحاصروهم من كل جهة، وقلتوا منهم وحرقوا ثواراً كثيرين.
وفرضوا غرامات على العلماء والأعيان المشاركين فى الثورة، وصادر أملاك كبير التجار الشيخ أحمد المحروقي، كما قرر غرامات على أصحاب الحرف، وقد غادر القاهرة مع العثمانيين والمماليك نقيب الأشراق الشيخ عمر مكرم والشيخ أحمد المحروقى، أما القائد الميداني في بولاق الحاج مصطفى البشتيلي فقد قبض عليه و أرغموا أتباعه وصبيانه على أن يقتلوه ضرباً بالعصيى حتى مات.
ويقول الجبرتي: وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصاً البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكالات والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذى وجدوه منعكفاً فى داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحاً نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حياً، وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم.
وهكذا انتهت ثورة القاهرة الثانية كما بدأت في حي بولاق، ورغم أن الثورة انتهت بعدما توسط بعض المشايخ والأعيان لكي لا ينتقم الفرنسيون، ورغم أن كليبر أعطاهم وعداً بالأمان، فإن ذلك لم يمنعه من النهب والقتل.