أحدث صدور الترجمة العربية لكتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" لـ تمثى برنن، ضمن سلسلة عالم المعرفة، التى يصدرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب فى الكويت، ترجمة محمد عصفور، صدى كبير لدى المثقفين العرب، والكتاب يتناول سيرة معرفية للمفكر الفلسطينى الأصل إدوارد سعيد، رائد دراسات الاستشراق الجديد، ودراسات ما بعد الكولونيالية فى جامعة كولومبيا الأمريكية، أما "تمثى برنن" فكان تلميذا من تلاميذ إدوارد سعيد، وظل صديقا له حتى وفاته فى العام 2003.
ويأتى الكتاب فى 12 فصلا مصحوبا بملحق للصور، وقد تحدث "تمثى برنن" على مراحل عديدة من حياة إدوارد سعيد ونتوقف عند نقطة معينة تتعلق بتقديم شخصية "سعيد":
يقول الكتاب:
كان سعيد خليطا يصعب التنبؤ بأفعاله، وكان أصدقاؤه يمازحونه أحيانا بوصفهم إياه بأنه "إدواردو" (وهو مفكر إيطالى من عصر النهضة) و"أبو وديع" وهو اسم يتبع عادة الثوار الفلسطينيين فى اتخاذ أسماء مستعارة بدلا من الأسماء الحقيقية. ومما لا يكاد يصدق أن سجله لدى مكتب التحقيقات الفدرالى يشير إليه بـ "إدواردو سعيد، ويعرف أيضا باسم إد سعيد".
وعلى الرغم من أن مزاجه يسوء عندما ينتقد ويسارع إلى الرد، فإنه يتحمل المزاح أحيانا، فقد كتب له صديقه العزيز الناشط والباحث الباكستانى إقبال أحمد قبل أشهر من وفاته رسالة تعود إلى أبريل من العام 1999 للسخرية من الصورة الرومانسية التى تحيط به. وفيما كان يشكر سعيد على مقالة كان قد كتبها عن الحرب التى دارت فى كوسوفو للصحيفة الباكستانية الفجر داعبه
داعبه فيها مداعبة لا يجرؤ عليها إلا صديق وأنهى رسالته بلهجه المستعطف "يا ابن فلسطين، يا قمرا يطل على القدس، يا نور الساميين، يا ملجأ العالم، يا ظل الله على الأرض، حفنه متواضعة من التراب تقدم لك التحيات من تحت قدميك المجيدتين اللابستين ما هو غالى الثمن، ويرحب بعودتك إلى أرض القنابل والقذائف والحليب البارد والعسل المعلب" سرته تلك المزحة وجعلته بتعبير صديق آخر من أصدقائه هو الصحفى والمعلق السياسى ألكسندر كوبرن "ينزل من قاعده تمثال الشهيد ليضحك على نفسه".
تذكرنا مبالغات أحمد بأساليب التقدير التى قوبل بها سعيد على مر السنين والاستقبال الفائق الذى اعتاد عليه فى حياته، فقد كان محمد حسنين هيكل، الصحفى البارز واليد اليمنى للرئيس جمال عبد الناصر، قد نظر إلى صورة مشهورة من صور سعيد وقال "يبدو وجهه الذى يملأه الألم شبيها بالصور العظيمة التى تصور آلام المسيح" ويشبه هذا النوع من المبالغات ما قاله الروائى السودانى الكبير الطيب صالح ردا على قول صديق من أصدقائه "إدورد رواية عظيمة وجميلة"، إذ قال صالح "ستنو مع الأيام وستكون أجمل".
وعلى مستوى آخر جعل "سعيد" العلوم الإنسانية علوما لا يمكن تجاهلها، وعلوما مقلقة أكثر لقادة الرأى فى كل من أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط، فهو لم يقف عند حد فضح الفظائع التى ارتكبتها الإمبراطوريات الأوروبية والأمريكية، وهو ما يرى بعضهم أنه هدفه الوحيد، بل أحيا معيارا أخلاقيا قديما يستند إلى الالتزام بما تقوله الكتب فى مكانها وزمانها، وهذا هو ما كان يدعو إليه طوال حياته، وهو أن ما حدث فى الماضى لم يعد فهمه خارج إمكانياتنا بل يمكن استعادته من خلال عمليه التفسير.