يحفنا رمضان وها نحن فى العشر الأواخر من الشهر الكريم، لكن هل بعد مرور الشهر الكريم، ومن بعده عيد الفطر سنجد أحدًا اغتنى بعد فقر مدقع؟ هل ستلاحظ ذلك على بعض من تعرف من قريتك؟ بمعنى أوضح: هل يصبح من كان قوته يسد رمقه بالكاد يمتلك سيارة فارهة؟ وهل تصبح «تاجرة الخضار» تمتلك فيلا أنيقة، وتاجر القصب- مقايضةً- بالبيض والسمنة تاجرًا ملء الأسماع والأبصار وصاحب عقارات لا حصر لها؟ باختصار: هل تظهر على أحد علامات أنه رزق «بغلة العرش» فى ليلة القدر؟
لكن لماذا كل هذه الأسئلة؟ وما علاقة رمضان وليلة القدر بكل ذلك؟ وما قصة «بغلة العرش» هذه؟
كل هذه الأسئلة يطرحها ويجيب عليها الكاتب خيرى شلبى من خلال روايته المدهشة «بغلة العرش» التى ظهرت أولى طبعاتها فى 1995، حيث يوظف خيرى شلبى الأسطورة أو الخرافة التى وظفها الكاتب بدقة وتفرد لتكون بطلة الرواية.
الرواية تدور حول خرافة أن هناك ما يسمى بغلة العرش تأتى للموعود فى ليلة القدر، عليها خرج محمل بالذهب، فوقه رأس قتيل يئن حتى إذا أتت صاحبها أخذ الذهب، لكن لابد أن يدفن رأس القتيل قبلا.
على ذلك حبك الكاتب روايته، وتبدأ الأحداث بجلوس المؤلف على طابية قنطرة ترعة السليمونية فى ليلة القدر، ويتوافد عليه بعض الناس من القرية الذين كانوا يعشقون الجلوس هناك ويحكى كل منهم حكايته مع بغلة العرش واعتقاده فيها، كل منهم له مذهب مختلف ورؤية مختلفة حول البغلة، نظرا لتعدد ثقافاتهم.
فإذا كان الشيخ عبد المقصود الأزهرى يرى أن بغلة العرش هذه ابتدعها الشيخ جمعة، إمام مسجد القرية، خصيصا كستار لغنى أقاربه الفاحش المفاجئ فإن ابن الحاج على داود يعتقد أن أباه قد رزق بغلة العرش، أما عبده جحشة «نجار السواقى» فيرى أنه لو كانت هناك بغلة عرش فكيف تأتى لمن لا يصلى ولا يتصدق -أى لمن لا يستحق- بينما يتبنأ آخر أن بغلة العرش فى ليلة القدر هذه ستأتى هذا العام لمحمد أفندى ريشة المدرس المحال على المعاش فهو أحق الناس بها.
ويستمر نسج الحكايات مع تعدد صوت الراوى وصولا إلى آراء صديقيه جعفر العطار الشاعر المثقف والمهندس عدلى بقوش، وهى آراء مغايرة تكسر المفهوم الضيق عن البغلة عند الآخرين، كونهما يمثلان الطبقة المثقفة فى الرواية، واللذين ينكران وجود ما يسمى بغلة العرش تماما.
ومع إطلالة أول شعاع للشمس تأتى الصدمة فى الرواية ويصدم القارئ، إذا تلوح فى الأفق بغلة العرش التى يهرول كل من طبيب الوحدة الصحية بالقرية والمؤلف والشاعر جعفر العطار خلفها فى محاولة من كل منهما للظفر بها، ويرونها رأى العين متجهة إلى عبدالرؤوف، فراش مدرسة البندر، الذى يعود بها إلى البيت ومن ثم سلّموا بحقيقة البغلة، ويرجعون أدراجهم حسيرين لأنهم لم يفوزوا بها.
لكن مع وضح النهار لليوم التالى تأتى صدمة أخرى، وهى أن البغلة التى أخذها عبد الرؤوف وعليها خرج الذهب كانت تحمل فوقها رأس الحاج على داود- الدحلاب- فقد كان يجمع أموال الشباب العائدين من الخليج ويتاجر بها حتى نمت تجارته وأصبح من ذوى الأملاك، ومع ذلك ما زال يحتفظ بركوب البغلة، ويتظاهر بالزهد والفقر دفعا للطمع به ومطالبة المودعين، المهم أن الحاج على كان قرر أن يبيع كل ما يملك من ذهب بعد أن عرف بارتفاع أسعاره وخرج به فى خرج على البغلة فى هذه الليلة فهاجمه قطاع الطرق والمتربصون ولما عثر عبدالرؤوف عليها أتت به الشرطة مربوطا فى ذيل البغلة للتحقيق معه، فقد جاءته بغلة نعم، لكنها بغلة هلاكه التى تحمل له الشر بحمله، أما الذهب فليس من نصيب فقير كادح مثله…
ويصل بنا الكاتب من خلال توظيف بغلة العرش هذه إلى ما يريد أن يقوله للقارئ وهو أن لا ثروة شريفة على الإطلاق وأن كل صاحب ثروة إما نصاب أو محتال أو مرتشٍ، لا ثروة منزهة على الإطلاق، وإنما يزداد الغنى غنى وتتضخم ثروته بطريقته غير المشروعة ويزداد الفقير فقرا والكادح كدحا لأنه وقع فريسة لفاقدى الإنسانية وأنظمة مقيتة وتجار بنى آدم، وأن قصة البغلة هذه مجرد خزعبلات ومحض خرافة، وأن الحكام المتسلطين وهاضمى حقوق المطحونين جعلوا من الفقراء البغلة والثروة فى نفس الوقت.
هذه باختصار حكاية بغلة العرش، من فضلك قارن بين الرواية وما نحن فيه الآن وأسقطها- سياسيا واجتماعيا- بعد ما يسمى ثورتين عظيمتين على واقعنا الآن، وحدد موقعك منها، لكن لا تنتظر أبدا "بغلة العرش".