لقد أثارت الحرب الروسية الأوكرانية ذكريات أليمة لأحداث قديمة، أحداث جرت وانتهت لكنها قابلة للتجدد باستمرار، أقربها للذهن عصر الحروب العالمية المدمرة، وأبعدها عن المخيلة -على الرغم من كونه أمرًا قابل للحدوث- عصور انحسار الحضارات، أقول بعضها وصعود حضارات جديدة.
أغلب الظن أن هذه الحرب ستنتهي كما بدأت دون أن تتسبب في أعظم مخاوفنا، حرب عالمية جديدة، لكنها ربما تسفر عن تغير طفيف أو عنيف في موازين القوى العالمية في هذا الاتجاه أو ذاك، هذا هو الاحتمال الأقرب، لا لأن الحرب دقت طبولها، لكن لأن هذا الكيان العملاق الذي نسميه بالغرب الأبيض لم يعد كما كان.
الغرب الذي ننظر إليه مرة باعتباره مفجراً أساسياً للأزمة ومرة كساحر بإمكانه أن يخرج من جعبته كل الحلول لم يعد قادراً على حل الأزمات التي يفجرها بنفسه، ناهينا عن الأزمات التي يفجرها أعداؤه.
هذه الحرب ليست إلا مجرد عرض من أعراض الضعف الذي آلت إليه أوربا ومن ورائها ابنتها الشرعية (أمريكا)، ربما عرض لمرض آخر هو الارتخاء في حل مشكلاتهم الحقيقية ومشكلات البشرية الحقيقية، وهكذا لم يعد في مقدرة الغرب أن يحمي حلفاءه أو أن يسحق أعداءه، لم يعد صاحب الصورة التي يعرفها عن نفسه أو نعرفها عنه طيلة القرون السابقة، وربما لم يعد في مقدرته أن يزاول دوره القديم في دفع عجلة البشرية للأمام، دور الريادة الذي تصدت له أوربا منذ عصر الأنوار واستمر إلى وقتٍ قريب.
لقد قام مشروع الحضارة الغربية على أكتاف الدعوة أو الصرخة التي أطلقها فيلسوفها العظيم "إيمانويل كانط" في القرن السابع عشر، دعوى فحواها مصلحة الإنسان أولاً وقبل كل شيء، على هذه الدعوى تأسست مبادئ الأنوار والحداثة والعقلانية والديمقراطية الغربية والحريات الفردية وكل المبادئ الكبيرة التي تصدر من خلالها الغربيون صدارة المشروع الإنساني كله (إن صح هذا التعبير).
نحن الشعوب التي عانت من الاستعمار الغربي مرة ومن الهيمنة الغربية مرةً أخرى، نظرنا بعين الإعجاب والدهشة والحسد لهذا المشروع الكبير وتمنينا أن نشارك فيه، مشروع التقدم بالبشرية إلى ما لانهاية، وأصبحنا مع مرور الزمن مجرد نتيجة وحاصل تحصيل لما يقوم به الغرب من نجاحات وانهزامات مرة تلو مرة، حتى أننا لم نعد نستطيع التعرف على أنفسنا دون النظر إلى الغرب، دون مقارنة أنفسنا بالغرب، لكن ماذا يحدث الآن؟
لقد انهار المشروع الإنساني الغربي كله؛ لأن الغربيين المعاصرين أحفاد الرجل الأبيض - الذي أسس عصر النهضة والأنوار منذ عدة قرون- قد خانوا المبادئ التي أرثاها أجدادهم، المبادئ التي تأسس عليها مشروعهم تجاه الإنسانية وقامت عليها حضارتهم برمتها، خذلوا أجدادهم من المفكرين والفلاسفة والعلماء حين تاجروا بأفكارهم ومبادئهم بدلاً من أن يضعوها قيد التنفيذ الحقيقي، وبالنسبة لنا نحن الشعوب الملونة أصحاب الحضارات القديمة فقد خذلونا أيضاً، خذلونا لأننا صدقناهم.
خذلان الحلفاء
هذه هي المرة الثالثة التي يخذل فيها الغرب حلفاءه خلال ثلاث سنوات لا أكثر، الأولى: خذلت أمريكا حليفتها العربية الأولى بعد هجوم إيراني استهدف ما يقارب ثلث الاحتياطي النفطي السعودي، الثانية: خذل الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" أكراد سوريا بعد وعود كبيرة بالحماية وخلافه ومن ثم ترك ظهورهم مكشوفة للجيش التركي الباطش، أما الثالثة فكانت من نصيب الأوكرانيين، ولا داعي الآن لتفصيل كيف خذلهم الأوروبيون فهذا موقف يحدث بجلاء الآن في اللحظة الراهنة، لا في أي وقتٍ آخر.
لا تصطنع أزمة لا تستطيع حلها
ثلاث مشكلات ضخمة اصطنعها الغرب خلال مدة لا تزيد عن ٥٠ عاماً ولازالت نيران هذه الأزمات تهدد السلم العام في العالم كله. الأولى: حينما مولت الولايات المتحدة المجاهدين في أفغانستان بالسلاح، والثانية حينما مولت فرنسا مدنيي سوريا بالسلاح (بكل الأطياف التكفيرية المختبئة تحت غطاء الثورة)، أما الثالثة فهي تحدث الآن مع جر الأوكران لحرب خاسرة وشديدة الوطأة من الصعب التراجع عنها.
التكنولوجيا ليست كل شيء
من بعد انقضاء عصر المؤسسين الكبار للفكر الغربي والفلسفة الغربية والروح الغربية؛ لم يعد للغرب ما يقدمه للعالم سوى المزيد من التكنولوجيا، لكن التجربة أثبتت أن التكنولوجيا -على عكس الفكر- قابلة للاستنساخ، الصين خير مثال على ذلك، بإمكان عالِم الإلكترونات التطبيقية في الغرب أن يخترع جهازاً، لكن بإمكان الصين أن تصنع مليون نسخة من هذا الجهاز، وربما من عالم الإلكترونات التطبيقية نفسه.
كانت الحرب العالمية الثانية هي الطامة الكبرى التي وضعت الغرب أمام صورته الحقيقية، صورة الضعف الإنساني لا صورة الإله القادر على صنع كل شيء وتجاوز كل شيء؛ ومن بعدها والغربيون يصارعون لإثبات ريادتهم من خلال شيء واحد فقط: إنتاج سلع تكنولوجية أكثر تقدماً وأشد تعقيداً، لكنهم بهذه الطريقة كانوا يمنحون منافسيهم الفرصة لأن يستنسخوا منتجاتهم إلى ما لا نهاية، يضاعفون الأرباح ويتفوقون اقتصادياً، وبهذه الطريقة منح الغربيون السكين لأعدائهم كي يذبحوهم، إنها دراما حزينة تجعلنا نتعاطف مع الغرب ونشفق على حالته الراهنة أكثر مما تجعلنا نكرهه أو نحسده أو نتأفف منه.
هذه ليست النهاية
خذلان الحلفاء واصطناع للغرب للمشكلات التي لا يستطيع حلها والاعتماد على التكنولوجيا وحدها لإثبات الريادة، جميعها ليست إلا ثلاث أمثلة على واقع تشكل ويتشكل أمامنا، واقع الانحسار والضعف الذي يصيب الحضارة الغربية العظيمة شيئاً فشيئاَ منذ الحرب العالمية الثانية وإلى الآن.
يحتاج التدليل على أمر انحسار الحضارة الغربية هذا لكتابات عديدة تقلب في التاريخ الغربي منذ عصر النهضة إلى الآن، ومنذ الحرب الكبيرة الثانية وإلى الآن، لا لإثبات ما هو مثبت بالفعل، لكن لمعرفة أسبابه كذلك، وقبل كل شيء لنعرف نحن الشعوب الملونة أصحاب الحضارات العظيمة القديمة ماذا نفعل وما هو طريقنا القادم بعد أن نتخلص من عقدة الرجل الأبيض.