في مدينة نائية تبعد ساعات عن العاصمة، وفى بيئة ريفية محافظة، أثرت في وجدنها وتكوينها، خرجت كوكب الشرق أم كلثوم، من قرية طماي الزهيرة، ابنة المنشد الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي كان يعمل منشداً في الموالد.
في قريتها الصغيرة، نمت أم كلثوم على عقيدة قديمة حفظتها منذ طفولتها تحمل عبق القرية المصرية، وكان للتربية الدينية التي حظيت بها كوكب الشرق أم كلثوم منذ صغرها، دور كبير في تمسكها بأداء طقوسها الدينية، والتمسك بتعاليمها ومن طقوس تلك النشأة أنها اعتادت الصيام منذ كانت في التاسعة من عمرها وظلت تتذكر كلمات ونصائح والدها الشيخ إبراهيم عن الصيام وعن عقاب المفطرين.
في سن صغير يكتشف "البلتاجي" موهبة صغيرته، وبدأ يأخذها معه تؤدي الأغاني في الأعراس ومنشدة الآيات القرآنية في المناسبات الدينية، تقول أم كلثوم: "أبى أول من اكتشف موهبتي وبفطرته السليمة تعهد صوتي ورعاه على أسس اكتشفت فيما بعد أنها من أرقى الأسس العلمية لتربية الأصوات في معاهد الموسيقى!".
تقول الباحثة أمل محمد في دراسة بعنوان "القصيدة الغنائية الدينية عند أم كلثوم": "أم كلثوم لما تميزت به من نشأة دينية حققت لها التحكم في مخارجها الصوتية وإجادة النطق بالألفاظ الكلامية الصحيحة، كما تميزت باحتكاكها بالحياة الموسيقية في نشأتها وقربها من والدها الذي أمدها بالعديد من التواشيح والأغاني والقصائد التي أسهمت في نشأتها الموسيقية، كما تربت أذنها على كل ما هو ذو قيمة فنية غنائية".
صنع الرجل أسطورة ابنته، ووضع بيديه اللبنة الأولى في طريق المجد، لكنه التزم ببيئته المحافظة، فكان يطلب من ابنته أن ترتدى ملابس الأولاد حتى تنشد وتغنى معهم، فالإنشاد في الموالد والسرادقات للرجال فقط.
من الصغر تأسست أم كلثوم في أحضان مدرسة الإنشاد الصوفي، وظلت فيها لمدة عقدين حتى انفتحت أمامها نافذة النور حين انتقلت إلى القاهرة للاستقرار فيها عام 1923، لتبدأ أسطورة الأغنية العربية من حيث انتهى سيد الموسيقى المصرية العظيم سيد درويش الذي رحل في هذا العام.
كانت أم كلثوم المنشد الأول في فرقة الإنشاد الديني التي أسسها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وبعدما جاءت إلى القاهرة ظلت تقدم حفلات الإنشاد الديني مع قصائد للشيخ أبو العلا محمد، حتى جاء عام 1927 عندما تفرغت للغناء على التخت الموسيقي الذي كونه وقاده العبقري محمد القصبجي وكان عازف العود فيه، إلى جانب سامي الشوا على الكمان، والعقاد الكبير على القانون.