لا شيء يشفي النفس إلا الحقيقة، إذا لم تحدث هذه اللحظة التي ينكشف فيها الإنسان أَمام العالم، وينكشف العالم أمامه، فإنه يدخل في دوامة الشك والنسيان والسقوط الحر بلا إرادة، إن كان على الشرقيين أن يسدوا نصحًا ما للرجل الغربي الأبيض فهي هذه، واجه نفسك بالحقيقة حتى تستطيع أن تقوم من عثرتك يا صديقي.
تنحسرُ حضارة الغرب، ومن قبلها انحسرت حضارتنا، ثم تقوم حضارةٌ جديدة وتنحسر، وبهذه الطريقة يستمر العالم في الدوران، تولد الحياة وتزدهر ثم تشيخ، لكنها تعود من جديد، بهذه الطريقة ربما يعود الغرب مجدداً بعد أن انحسرت قواه، وبهذا الطريقة نفسها بإمكاننا نحن أن نعود.
الشرقيون في روسيا، في الصين، في جزر اليابان، في بلاد الفرس، في الهند المنهكة من الاستعمار لكنها لازالت ترى العالم من منظور الرحمة، في جزيرة العرب المجروحين في هويتهم لكنهم لازالوا فخورين بأجدادهم المخلصين الذين صنعوا حضارةً كبيرة من معين البدائية، الشرقيون في بابل وفي أراضي الأمازيغ، والشرقيون في مصر التي رغم كل شيء لم تفقد روحها المرحة ولا أملها في الخروج للنهار من جديد. ربما نلتقي الشمس التي أشرقت هنا من قبل.
الغربي المنتصب أمام ماكينة البلاستيك على أطراف لندن، عازف الترومبيت على ضجة الماكينات في دهاليز برلين، الغربي المغترب في أرضه ولغته ومحل ميلاده في جنوب أمريكا، الذي يمسك بقصيدةٍ مطوية في جامعةٍ من جامعات باريس يتحدثُ فيها إلى القمر ويطلبون منه أن يكتب بدلاً منها قصيدةً عن ماكينة الروبوتات، الغربي الذي صنع لنفسه كل شيء لكنه لم يمتلك أي رغبة بعد ذلك لأن يفرح بما صنعه، إذا كان على الشرقي أن يسدي نصحاً الآن لصديقه الأبيض فهي هذه،
حسناً أن تنحسر حضارة التكنولوجيا قليلاً الآن وأن تحل مكانها حضارات روحية جديدة، لعلك تستطيع أن تهدأ قليلاً يا صديقي أبيض البشرة حلو اللثغة نبيل المقصد والفخور بنفسه إلى أقصى حد، بهذه الطريقة وحدها تستطيع أن تهدأ وتفرح للمرة الأولى بما صنعت، بأن تنحسر حضارتك قليلاً، من بعض الشرور تأتي الخيرات، هذه حكمة يعرفها الشرقيون جيداً ويحفظونها عن ظهر قلب.
يرفض الغربيون أن يعترفوا بأن حضارتهم تنحسر، عشرات العقول اللامعة كانت قد بدأت في إطلاق صافرات الإنذار منذ نحو ثلاثمائة عام، حذروا من أن الغرب ماضٍ في طريقه للانحسار إذا استمر على نفس المنوال، لكن لم يسمعهم أحد، ومن حسن الحظ أن رجل أبيض يُدعى (براندر) جمع كل تلك التحذيرات المبكرة عن انحسار الغرب في كتاب واحد، ولم يسمعه أحد، وها هو ذا الانحسار يصل إلى النقطة الحرجة التي سيتحول بعدها إلى انحدار وسقوط، ولازال الغربيون لا يصدقون.
والعجيب أن معهم جانب كبير من الشرقيين يرفضون كذلك أن يصدقوا، هذه أعجب الأمور على الإطلاق.
تنحسر القوة الاقتصادية للغرب والقوة العسكرية للغرب والمجد التكنولوجي للغرب ودخل في طور التعثر الكبير، والسبب أن من قبل هذه الأشياء قد انحسرت قوته الروحية والفكرية، هذه ليست مثاليات فارغة لكن شواهد تتحقق على أرض الواقع، علينا نحن الشرقيون أن نتعلم من هذا الدرس، وأن نتعلم مواجهة الحقيقة، الحقيقة التي هي السم الشافي، ولا شيء يشفي سواها.