ننشر اليوم قصة قصيرة للكاتب خالد خليل الصيحى وفيها يقول: في الحقل القريب من النهر، ووسط الزرع في الهواء الطلق، في تمام منتصف الوقت بين (الزوال) و(غروب الشمس)، وبجوار حقيبة الطوارئ وزجاجة الماء البارد وبوص الصَّيد، جلس الفتية الثلاثة على الأرض؛ يربط كُلُّ منهم سنارة في طرف خيط، ثم يمرر الطرف الآخر في كل من الثُّقل والغمَّاز قبل أن يربطه في طرف بوصة طويلة من البوصات.
ثم أخذ أحدُهم يحفر الأرض بفأس استأجروه من الفلاح؛ بينما انشغل الآخران بالبحث في (الطين الرطب) الناتج من الحفر .. عن (الدود) أو (الطُّعْمِ الغرورِ) للسمك المرغوب، فيلتقطانه حياً يتلوى كالثعابين، ويضعانه حفظاً في وعاء صغير، فيه قليل من الطين.
ولم يكد الثلاثة يصلون إلى شاطئ النهر وهم يحملون كُلَّ ما كان يشغلهم في الحقل حتى بدأ كُلُّ منهم يجهز سنارته للصيد ويشبك فيها الطُّعْم، ثم استخدموا البوصات بهِمةٍ بأيديهم كأذرع قوةٍ لإلقاء سنانيرهم بعيداً في الماء، فغطست السنارات الثلاث بفعل ما تحمله خيوطها من أثقال، وطفت أمامهم الغمَّازات بجوار (صخرة كبيرة) تحيط بها المياه وكأنها (جزيرة) يصطاد من فوقها بأكثر من سنارة (شيخٌ كبير) يجلس على كرسي صغير وهو يمسك بوصة بيده اليسرى ويحشر اثنتين بين أسفل قدميه وسطح الصخرة.
أخذ الوقت يمرُّ ببطء دون أن يشعروا ببشائر صيد، بينما اصطاد الشيخُ بلطية فضية لمعتْ بصورة بهية تحت أشعة الشمس الذهبية، حجمها عظيم قلما يُرى لها مثيل. فخلَّصَها من سنارته وطعَّمَها من جديد وألقاها في النيل.
أخذوا يراقبون في صبرٍ جميل سكون غمَّازاتهم المريب وسكون غمَّازات الشيخ الكبير، ويتأملون -من حين إلى حين- طيورًا تطير فوق سطح الماء، وهي تصيح محلقة في الهواء، تعلو وتهبط بخِفة وسرور، وتلف وتدور، والبط من تحتها يعوم.
غاص أحد غمَّازات الشيخ في الماء فأخذ يجذب الخيط باهتمام ثم يرخيه بحساب، ثم يجذبه برفق وكأن على رأسه الطير، ثم يوقف الجذب، وأخذ يجذب الخيط أو يرخيه طبقاً لطبيعة الموقف وما يقتضيه؛ حتى خرجت سنارته بقرموط عظيم، أسود الظهر وأبيض البطن، سيطر عليه ببذل جهد كبير خلال وقت غير قصير، وباستخدام أدوات ليس لها في حقيبة الفتية أي مثيل.
كانوا يراقبون ما كان يفعله الشيخ للسيطرة على القرموط وهم صامتون يستمتعون بأجمل السيمفونيات في الكون، فالماء من تحتهم له (خرير)، والريح من حولهم لها (صفير)، ومن خلفهم ويحيط بهم شجرٌ يسمعون لأوراقه (خشخشة) وللعصافير الواقفة على أغصانه (زقزقة)، وتتناغم أصوات تلك المخلوقات بصورة شجية؛ وكأنما يقود موسيقارٌ فرقتهم الموسيقية!
قال أحدُهم: "يجب أن نخرج سنانيرنا من الماء ونعيد النظر في ارتفاع الغمَّازات! .. ألم يلفت نظركما لمَّا خرجت سنارة الشيخ من تحت سطح الماء المسافة بين القرموط والغمَّاز؟!، كما ينبغي أن نغير مقاس السنانير، فالشيخ مقاس سناراته كبير، لدينا منه في حقيبة الطوارئ كثير".
خرجتْ السنانير، وتم التبديل والتعديل، وطُعِّمَتْ السناراتُ من جديد ثم أُلقِيَتْ مرة أخرى في النيل، فلم تكد تمرُّ دقائق معدودات حتى غطستْ الغمَّازاتُ الثلاث، فأخرج الفتية ثلاث سمكات لا يزيد كل منها طولاً عن طول اصبع أصغر الفتية جسماً، فخلَّصوها من السنانير التي طعَّموها بطعم جديد ثم أُلقوها في النيل.
أخذوا يتأملون الشاطئ الآخر من النهر، المغطى تماماً بالزرع، ويقرُّ لونه الجميل عيون الناظرين، ويظهر فوقه بوضوح شديد بقر أصفر وجاموس أسود ومَعز وغنم كثير وخيل يُسمع له صهيل، ويناطح السحاب هناك بُرْج حمام يبدو من بعيد كجبل قطر قاعدته صغير وارتفاعه كبير مطلي بلون أبيض، تحت أشعة الشمس يلمع، لا يسمع الشيخُ وفتيةُ السنانير لحمامه أي هديل بسبب بعده الشديد.
غطس غمَّازان من غمَّازات الشيخ، فأمسك البوصتين بكلتي يديه، وتعامل في ذات الوقت مع السمكتين، اللتين خرجتا من الماء فضيتي اللون كبيرتي الحجم كالسابقتين، ثم غطس غمَّازٌ من غمَّازات الفتية الثلاث، فاكتشف صاحبه خلو سنارته من أي صيد أو أثر طُعْم، فالسمك يسرق في بعض الأحيان الطُّعْمَ (بخِفَّةِ فم) مثلما يسرق اللصُّ المالَ من الجيب (بخفة يد)!
طفقوا يراقبون طفو الغمَّازات وجريان الماء في حوض النهر من الجنوب إلى الشمال، وقوارب الصيد التي ألقت فيه الشِّبَاك، بينما هم يستمتعون بما ترسله لهم (الزهور) و(الورود) و(الرياحين) من (شذا) و(عبير) مع (الريح) الحاملة لكل (طيب) في طقس رائع فريد؛ لكونه جافاً معتدلاً وليس حاراً أو بارداً أو رطباً.
فجأة ودونما أن يغطس غمَّاز سحب الشيخ بقوة سنارة في الحال، فإذا بثعبان كبير من سمك النيل يتلوى، منظره جميل ومخيف للفتية، وتعامل معه الشيخ بقوة وحنكة بحُكْمِ خبرته، واستطاع بمهارة يُحْسَدُ عليها تخليصه من سنارته، وأعاد تطعيمها قبل أن يسرع بإلقائها مرة أخرى في النيل عسى أن تأتي بصيد جديد.
قال قائلٌ منهم: "يجب أن نحتل بعد ظهر الغد جزيرة ذلك الشيخ، فالسمك الكبير الحجم يسبح بجوارها لا بجوارنا، وهي ليست ملكه أو مكتوبة باسمه وإنما هي حق كل من يبادر باحتلالها، وقد صارت اليوم من حقه لأنه أتى قبلنا، ونستطيع غداً إن أتينا مبكراً أن نجعل حق استغلالها لنا"!
وضعوا خطة إن نُفِّذَتْ في اليوم التالي بدقة وبإحكام ستيسر لهم هذا الاحتلال، ونام كلُّ منهم في بيته البعيد فوق فراشه الصغير وهو على أهبة الاستعداد لتنفيذ خطة الاحتلال، ويحلم بصيد كبير: (بلطيات) و(قراميط) و(سمك ثعابين).
وفي ذات التوقيت الذي بدأت فيه حرب (العاشر من رمضان)، في (الثانية ظهراً وخمس دقائق) وصل الفتية سيراً على الأقدام إلى الشاطئ، ورفعوا ذيول السراويل كاشفين عن سيقان نحيلة وهم يحملون البوص والحقيبة سائرين في سبيل الوصول إلى الصخرة الكبيرة.
وبعد السير والمرور فوق وبين عدة صخور تُستَخدَمُ كطريق في الماء مغمور يؤدي إلى الجزيرة تمكنوا من الوصول ثم الصعود فوق سطحها واحتلالها بسهولة.
وفوق الأرض المُحتَلة أعدوا العُدَّة وشبكوا الطعم بحِنكة في السنانير، وألقوها بجوار الصخرة في النيل كما كان يفعل بالأمس القريب الشيخُ الكبير، فمَرَّ بعض الوقت قبل أن يغطس أحدُ الغمَّازات الثلاث تماماً في الماء، ولم يطف فوق السطح أبداً بعد ذاك، ولم تفلح كلُّ محاولات الفتية مغتصبي الصخرة في استعادة السنارة المختفية التي بدت وكأنها شُدَّتْ لتُثَبَّتْ في القاع تحت سطح الماء بفعل الجان .. وانقطع خيط السنارة من قوة الشد فكسَّر صاحبُها البوصة من شدة الغيظ وجلس بعدئذ يراقب غمَّازي بوصتي الآخرين.
وبعد مرور دقيقتين غطس أحد الغمَّازين، فأخرج صاحبه بلطية صغيرة تبدو جميلة تلمع تحت أشعة شمس الظهيرة، فضية اللون الممتزج ببعض ألوان الطيف.
اصطاد الفتيان بعد ذلك نسخاً كربونية من تلك البلطية، حتى حضر الشيخُ فاكتشفوا أن روحه رياضية، إذ حياهم وهو يبتسم بحسن نية، ثم جلس أمامهم في ذات المكان الذي كان بالأمس مكانهم هم، فلم يكد يلقي سنانيره حتى اصطاد سمكة كبيرة!، وظلت الأمور تسير على هذه الوتيرة، فالسمك الكبير تلتقطه سنانيرُه والسمك الصغير تلتقطه سنارتا الجزيرة!
ازدادت سرعة الريح فنفخت قمصان وسراويل الفتية والشيخ الكبير .. وجعلت التحكم في البوص الطويل أمراً ليس باليسير.
عَبَرَ إلى الشاطئ قادماً من الجزيرة الفتى الغاضب الذي كسَّر البوصة، فلم يكد يصل إلى الشيخ صائد الأسماك الكبيرة حتى غطس غمَّازان من غمَّازات سنانيره، فأخرج سمكتين إحداهما عظيمة والأخرى يمكن أن توصف بأنها ليست صغيرة!
فقال له الفتى: "جئت لأقُصُّ عليك قصة قصيرة تنتهي بسؤال علامة استفهامه كبيرة، وأرجو أن أجد له عندك جواباً سأحفظه بعدئذ لك جميلاً"، ثم حكى له ما كان من أمرهم قبل وبعد احتلال الجزيرة مروراً بكسر البوصة، ثم سأل الرجل: "هل يمكن أن تفسر لي سِرَّ اصطيادك للسمك الكبير واصطيادنا نحن للسمك الصغير؟ .. رغم أنك ونحن قد اصطدنا من فوق سطح ذات الصخرة!، ومن نفس الموقع على الشاطئ!، وترتفع غمَّازاتُنا في ذات مستوى ارتفاع غمَّازاتِك!، ومقياس سنانيرِنا يضاهي مقياس سناراتِك!، وأطوال بوصاتِنا تحاكي أطوال بوصاتِك!".
قال الشيخ: "دعني أسألك أنا سؤالاً إن أجبتَه أنت أجبتُك عن سؤالك"!، قال الفتى: "اسأل وسأجيبُك"، قال الشيخ: "ماذا ستفعل بالسمك بعد رحيلك؟!"، قال الفتى: "أشويه، أو أقليه، أو (أحفظه في الثلاجة) وأتناول طعاماً غيره إن كنت لا أشتهيه".
فقال الشيخ: "أما أنا فالصيد هو المصدر الوحيد لرزقي، وآكل نصف ما اصطدته مع مَنْ أكفلهم من أهلي، وأبيع النصف المتبقي لأنفق من ثمنه على شئونهم وشأني، ولهذا اتسع رزقي بفضل ربي فهو ليس لي وحدي .. إلى هنا يا ولدي تنتهي إجابة السؤال المنتهي بعلامة استفهام .. لكن يا بني لا تغضب مني، فأنت مثل ابني وأنا أبغي أن ألومك على فعلك السلبي .. ما كان ينبغي أن تكسر البوصة بسبب انقطاع خيط السنارة .. كان يجب أن تصبر وتواصل بذل جهدك وتعيد تجهيز سنارتك، فالنصر -يا ولدي- مع الصبر كما قال (رسول الله سيد الخَلْق) .. واعلم أنك بحكم سنوات عمرك المعدودة تنقصك الخبرة المطلوبة، فالذي شدَّ السنارة والغَمَّاز هي السمكة المُصطادة التي هربت في الحال إلى القاع، وحشرت نفسها تحت بين كُتَلِ الصخر لكي لا تقع في شَرَكِ الصيد، ولو لم تشد أنت الخيط وصبرتَ بعض الوقت لشعرتْ السمكةُ بالأمن ولفرَّتْ من سِجْنِ الحشر، ولطفى الغمَّاز مرة أخرى فوق السطح داعياً إياك لسَحْبِ ما قد اصطدتَ .. يا بني: (إن تعلمتَ الصَّبر من الصَّيد فقد فزتَ بكنزٍ أعظم من كل سمك النهر)".