نلقى الضوء على كتاب "أزمات الحرب الأوكرانية- الروسية ومستقبل الإرهاب" الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، وينطلق الكتاب من فكرة أن تصدُّع الجبهة العالمية يؤدى إلى بروز ثغرات تتسرّب عبرها جماعات اللادولة، ويتربح منها مقاولو التطرف، فتترسخ الدعاوى التعصبيّة والشوفينية القومية، لذا مثّل تفاقم الصراع الأطلسى- الروسى؛ واجتياح القوات الروسية الأراضى الأوكرانيّة، حدثًا مقلقًا لدارسى التطرّف والإرهاب، لما تحمله الحرب من آثارٍ إنسانية مقلقة، وما تجره من عواقبَ اقتصادية وخيمة، ونزاعٍ فكرى يؤججُ التطرّف، قبل أن يتضاعف هذا القلق مع الدعوات لانضمام مقاتلين غير نظاميين للتطوّع والقتال تحت لواء أحد جانبى الصراع! ولبّت النداء قوميّات متنافرة، وجنود سابقون، ومقاتلون؛ يزعم أن بعضهم سبق له القتال فى جماعات إرهابية، وقد تسببت ظاهرة «المقاتلين الأجانب" بوجهها الجديد، فى ارتباكٍ أثار النقاش حول متانة المفاهيم الأساسية للإرهاب والتطرف والقومية والمحافظة، واليمين، والانفصال، بل وبُعِثت جدالات ظنّ العالم أنّها قُبِرت بانتهاء الحرب العالمية الثانية، أو أقله مع انهيار جدار برلين (1989).
بدأ الكتاب، بتعريف قانونى لمفهوم المقاتلين الأجانب، ثم انشغل بنشاطهم فى أوكرانيا منذ عام 2014؛ وتداعيات تمدد التنظيمات المتطرفة فيها، وصولاً إلى بحث ظاهرة الإرهاب فى القوقاز وآسيا الوسطى، ثم درس التيارات القومية فى أوكرانيا، وصولاً إلى قياس التأثيرات المحتملة على القارة الأوروبية والشرق الأوسط، مرورًا بمحاكمة فكرة مقارنة الأفغان العرب، بالمقاتلين العائدين المحتملين من أوكرانيا، وتقيّيم الموقف من النزعات الانفصالية.
تصدرت الكتاب دراسة مفاهيمية عن البُعد القانونى لمفهوم المتطوعين والمقاتلين الأجانب المنخرطين فى النزاع، فحاكمت المشروعية القانونية، وبيّنت ما يترتب عليها، فى معايير حقوق الإنسان، والقانون الدولي، قدمتها الباحثة والقانونية اللبنانية فاتن فرج، مستكملةً بها دراسات سابقة، عن جدلية تعريف الإرهاب.تناولت دراسة ثانية الزاوية الميدانية لظاهرة المقاتلين الأجانب فى أوكرانيا منذ عام 2014، فركّزت على تنامى ظاهرة الجماعات المسلحة الأممية، وانخراطها فى نزاعات خارج حدود بلدانها الأصلية، ومبررات استعانة طرفى النزاع الروسى والأوكرانى بها. أشارت الدراسة استنادًا إلى مصادر أوروبية إلى أن نحو ثلث قتلى الجانب الروسى الذين تم رصد أسمائهم –فى الحرب الراهنة- ليسوا من العِرق السُّلافي! حاول الباحث أن يجد أدوات الربط بين الكتائب القومية الأوكرانية، وبعض العناصر الأوروبية، قبل أن يُحذّر بحسم من "عسكرة حركات اليمين المتطرف"، فى ظلّ الدعائية القومية التنافسية، والأبعاد الدينية والهوياتية للصراع.
كانت حركة المقاتلين من أوكرانيا، وإليها، محلّ دراسة غطت تمدد التنظيمات المتطرفة فى أوكرانيا وتداعياته؛ لقد تحوّلت منطقة شرق أوكرانيا منذ عام 2014، إلى بؤرة تجّمع لمعارضى روسيا وحلفائها. وعلى الرغم من أنّ الدراسة أشارت إلى جهود أوكرانيّة أدت إلى القبض على البراء الشّيشانى فى 2019 فى كييف، فإنّها لفتت إلى بقائه مستترًا فيها بأمان لمدة عامين، مما يدلّ على الرخاوة الأمنيّة فى التعامل مع المتطرفين الشيشان فى أوكرانيا.
زعمت الدراسة أن المقاتلين الشيشان المتحدرين من منطقة بانكيسى (Pankisi) الجورجية، يعودون من القتال فى سوريا إلى أوكرانيا مباشرةً، محتمين بجبال الكاربات (Carpathian Mountains)، ومستغلين ثغرات قانونية، أزعجت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى من أوكرانيا، إذ تجمعت بعد 2014 قوات شيشانية «معادية لروسيا»، وبدأت تُجمّع مقاتليها من «دول أوروبية» فى كتائب أشهرها كتيبة جوهر دوداييف، وتنظيمات أحمد زكاييف. بعد انطلاق الحرب، نُقل نحو مئتى مقاتل أجنبى مِن سوريا للقتال إلى الجانب الأوكراني! تلمّح الدراسة إلى أنّ تجميع المقاتلين الأجانب فى أوكرانيا ليس اعتباطيًا، وكأنها ترى ملفَ «العائدين من أوكرانيا»، عين الإعصار الناشئ!
تطرقت دراسة إلى تأثير النزاع الحالي، على عودة نشاط الجماعات الإسلامويّة المقاتلة؛ الكامنة فى شمال القوقاز، ومنطقة آسيا الوسطى، وفرص استغلالها للفوضى وتدفق الأسلحة على أوكرانيا، ونَقَلت عن قائد فيلق أحد الكتائب الشيشانية المعادية لروسيا قوله: "أعلنّا عن معسكر فى أوروبا عام 2014، وفى غضون أسبوعين ظهر فى قوائمنا (600) شخص، قدم ثلثهم إلى أوكرانيا".
تناولت دراسة "الإخوان المسلمين" فى أوكرانيا ومؤسساتهم وواقعهم، وشرحت ديموغرافيا توزع المسلمين فى البلاد، وهياكل ممثلياتهم، ويسرد الباحث واقع النزاعات بين الجماعات المتفرقة، مركّزًا على الجمعية الأوكرانية للمنظمات الاجتماعية (الرائد)، ودورها فى خلق ثقافة تنظيمية، متأثرة بأفكار منظرى الإخوان، آوت بعض المنتمين للتنظيم الدولي، والمدانين بقضايا عنف وإرهاب فى مصر. تبنى الدراسة فرضية الصلة بين المؤسسة والإخوان على زيارة الباحث لمقر المؤسسة، ومكتبتها، ومطالعة مفرداتها. متناولاً تفاعل الجمعية مع الحرب الراهنة، عبر جمع التبرعات، وملاحظًا وجود مجموعات من المقاتلين لم تنضم للجيش الأوكراني، بل انضمت لكتائب عسكرية مستقلة، تضم أوكرانيين أوروبيين وشيشان وقوقاز.
مثّلت العناصر المنضوية تحت لواء "الكتائب والأحزاب القومية الأوكرانية"، عصب "مقاومة التمدد الروسي"، وانتشرت فى العالم شبهة انضواء هذه الأحزاب تحت شعار شديد التطرف، يصل لحدِ اعتناقها الأفكار "النازية الجديدة". فقامت دراسة بتفكيك الاتّهام، لشرح سياقه التاريخى بدايةً من تحالف القوميين الأوكرانيين مع أدولف هتلر ضد بولندا وروسيا، ثم اهتزاز تحالفهم بعد الاتفاقية الألمانية- السوفيتية عام 1939، ولكنّه ما لبث أن قوى مع تقدم القوات الألمانية داخل روسيا، إذ ساهم القوميّون بقتال عدوّهم السوفيّتى ورأوا فى الألمان "جيش تحرير"، ولكن التّحالف المؤقت نفسه انتهى حين رفض هتلر انفصال أوكرانيا، فنشبت مواجهات أدت إلى اعتقاله القوميين الأوكرانيين، وعلى رأسهم: ياروسلاڤ ستيتسكو (Yaroslav Stetsko ) (1912-1986)، وستيبان بانديرا (Stepan Bandera) (1909-1959)، ورومان شوخيفيتش ( Shukhevych Roman) (1907-1950). لاحظ الباحث تَركّز الحركة القومية فى الغرب الأوكرانى بسبب كثافة السكان وتوافر المظالم والانفتاح المعرفى للثورة، على شحّ الموارد وتوزيعها، بالإضافة إلى عوامل هيكلية تفصلهم عن الشرق الذى يتحدث الروسية، ويتدين بالأرثوذكسية، بينما تسود عند غالبية القيادات القومية الكاثوليكية المحافظة. تشير الدراسة إلى أنّ النزاع بين شرق أوكرانيا وغربها، خلق جلّ الثورات، وأنّ توظيف إرث الحركة القومية فى مقاومة روسيا، هو الذى أدى إلى إحياء شبهة النازية، وتاريخها المندثر، وهو عرَض لمرض أكبر.