"القوة التي تضع حبات الرمان، واحدة واحدة داخل قشرتها،
تعلم في أي قلب تضعك فلا تقلق".. مولانا جلال الدين الرومي
يقترب الخريف من كل عام مسبوقا بتدفق ماء فيضان نهر النيل ومعه بشائر موسم حصاد وتصدير فاكهة الرمان بمركز البداري- محافظة أسيوط-، ومع بداية أغسطس تبدأ فاكهة الرمان المصرية في الخروج لأسواق التجارة الدولية، وهذا العام يتملكني الأمل أن يتجاوز موسمنا الحالي 2022 الرقم 100 ألف طن من الرمان المصري الذي أُعلن العام الماضي عن تحقق تصديره للأسواق العالمية - فضلًا عن حجم ما يستهلكه سوقنا المصري- وهو الرقم الذي صرح به الدكتور أحمد العطار، رئيس الحجر الزراعى، بمعرض حديثه عن آفاق فتح الأسواق الصينية أمام الصادرات المصرية وبالتحديد الرمان المصرى، وهو ما نشره موقع انفراد بتاريخ 6 نوفمبر 2021، والذي يمكن ترجمته اقتصاديًا – نقديًا- بشكل تقريبي إلى 57 مليون و195 ألف دولار، أو ما يعادل حوالي 897 مليون و961 ألفا و500 جنية مصري- وفق ما نقل موقع الوطن بتاريخ 7 فبراير 2022م، وهو الرقم الذي نقله عن ما كشفت عنه النشرة السنوية للتجارة الخارجية التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن شهر أكتوبر 2021.
حديثنا هُنا عن مزرعة كبيرة توجد بمركز البداري، تمتد لــ 10 آلاف من الأفدنة تكاد تكون متصلة، وهو ما وصفه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأنه يمثل " أعلى تركيز لزراعة الرمان في العالم"، نعم تنتشر زراعة الرمان بأكثر من مركز بمحافظة أسيوط، سواء بمركز منفلوط- والتي ينسب لها صنفنا المصري المحلي "المنفلوطي" – وكذلك مركز ساحل سليم، وشرقي مركز صدفا بمحازاة نهر النيل، وجنوبي مركز أبوتيج.
للحصاد الزراعي تاريخ طويل من الإحتفالات لدى أغلب شعوب العالم، فهو اللحظة التي يعبر فيها المزارع عن إحتفاله بنماء ووفرة منتجه الزراعي وحصاده، وهو بهذا المعنى الطقسي يعبر عن اللحظة التي يعلن فيها الإطمئنان للنجاح والوفرة ومن ثّم الراحة والرضى. وبذلك يعلن؛ محتفلًا انتهاء العمل والجهد والقلق، وبدء الكسب والربح، لُيعيد الدورة دورة العمل من جديد، مع موسم آت، لتكمل الحياة مسيرتها نحو المستقبل.
وبعصر تحكمه الحداثة والتنظيم والتقنية، وبعد أن كان الإنتاج الزراعي يخص عالم المزارع فقط، وإذا مع انفتاح العالم ويسر التنقل والتواصل بين الشعوب، ومع حضور الدولة وتنظيمها لشؤون مواطنيها بقدراتها الناجزة، أصبحت هناك ضرورة لدعوة عامة لــــ إقامة مهرجان للــرمان، وتعد إحتفالات ومهرجانات الحصاد واحدة من أهم مظاهر الدعاية المؤثرة للمنتج الزراعي وتسويقه، ودعم الثقافة التقليدية لمجتمع الإنتاج، ليس فقط على مستوى الإقتصادي، ولكن؛ أيضا ثقافيًا وبنفس القدر من الأهمية، وكما هو واضح للعيان والملاحظ والمتابع المنصف، "الجمهورية الجديدة" منفتحة على كل المبادرات التي من شأنها أن توفر لدولتنا وشعبها كل الفرص الممكنة والمتاحة للنجاح والنمو، في الداخل والخارج، خاصة وأن حديثنا هُنا عن فاكهة مصرية بشكل حصري، توفر بتصديرها العملة الأجنبية، وفرص العمل الكثيرة، ولعل أهم ما يمكن لفت الإنتباه إليه، أن الرمان المصري من الأشجار الموفرة في استهلاك الماء بشكل كبير، وربما لا يصادفنا من بين النباتات نبات يصوم عن الماء لقرابة 5 شهور لا يحتاج فيها للري بشكل نهائي بمثل ما ألحظة بزراعة الرمان، بهذا المقترح –وغيره بكل التأكيد- نعيد مصر مجددًا لتشغل موقعها الذي تستحق على الخارطة العالمية، ليس فقط على مستوى الإنتاج وجودته فقط، أو القدرة التنافسية بالأسواق العالمية، لكن على مستوى أكثر عمقًا، وهو دعم ثقافتنا الوطنية المحلية والحفاظ عليها، ووفق خبرتي الزراعية الخاصة، الأسبوع الأول من أكتوبر أنسب الأوقات لتدشين أحتفال بمثل هذا الذي أدعوا إليه بهذا المقال، وأرشح مدينة البداري لتكون هي الموقع الأنسب، لأسباب تتعلق بوفرة الإنتاج، وكثافة الزراعة بها مقارنة بغيرها من مراكز أسيوط مما جعلها وجهة المصدرين وسوق طلبهم الأهم، بالإضافة للاستفادة من شهرة حضارة البداري القديمة وشهرتها عالميًا، فهي واحدة من أهم مراكز حضارات ما قبل التاريخ. كما تشتهر بزراعتها لصنفين من الرمان المصري المحلي والذي عليهما طلب كبير محليًا ودوليًا، الصنف الأول: الأسيوطي، وهو حامض الطعم، تكون به نسبة طعم الملح مقارنة بنسبة السكريات مرتفعة بشكل واضح و"زاعق"، وهو صنف مبكر يبدأ نضجه بداية أغسطس من كل عام ولمدة شهر واحد، وهو محدود في كميته مقارنة بالصنف الثاني: المنفلوطي "البلدي"، ويبدأ نضجه مع الأسبوع الأول من شهر سبتمبر وينتهي مع بداية شهر ديسمبر، والذي يمتاز بالتوازن في الطعم ما بين السكريات والملح، وهو بخلاف الأصناف الجديدة المستوردة في توازن السكريات والطعم الحمضي، والتي تم زراعتها بمزارع الاستصلاح الزراعي على طريق الاسكندرية الصحراوي، بوادي النطرون والنوبارية سواء "الواندرفول" أو صنف الــ "116". هذا بخلاف أصناف محلية قديمة كانت موجودة بمراكز أسيوط، وقلما نجدها الآن مثل رمان "ناب الجمل" الرمان "العربي" وكذلك "السوداني".
يمتلك الرمان بمصر سرديته التاريخية الخاصة، حيث يعود الفضل للقائد الملك المصري العظيم "تحتمس الثالث" (الأسرة الــ 18- الدولة الحديثة/ 1481- 1425 قبل الميلاد) في توطين زراعته بمصر، والذي استورده من سورية، وكان من بين ما وثقه من جهود في جلب نباتات جديدة لمصر، وهو ما نشاهده بمعبد آمون بالكرنك على الجدارية المعروفة بإسم "الحديقة السورية"، ومما يستحق الذكر هُـــنا، أنه قد عثر على بعض القطع الأثرية الأقدم على تاريخ تحتمس الثالث بمصر تؤكد معرفة واهتمام المصريين بثمار الرمان، حيث عثر على أقدم قطعة لجرة على شكل ثمرة الرمان من حجر رسوبي (breccia stone) يعود تاريخها إلى فترة الأسرات المبكرة (3150-2686 قبل الميلاد). ويمكن العثور على مظهر دال على الرمان يعود للأسرة الثالثة عشر على مقبض فضي لخنجر يعود لسقارة، كم تم العثور على نماذج حجرية (steatite) وعاج على هيئة الرمان، وقلادات ذهبية على شكل رمان ووعاء رمان فضي ما بين القطع الجنائزية بمقبرة "توت عنخ آمون".
كما وثقت البرديات ومنها بردية تورين -القرن الثاني عشر قبل الميلاد- هذا المقطع الذي يعكس إهتمام المصريين بالرمان:
شجيرة الرمان ترفع صوتها (خفيض، ومُصِر، وصاخب):
"بذوري تلمع مثل أسنان سيدتي، وشكل فاكهتي مستدير مثل نهديها.
أنا مفضل لها، كما أعلم، أحلى شجرة في البستان،
وأبدو في أفضل حالاتي مع كل موسم".
ولمهرجانات الاحتفالات بمواسم الحصاد دورها الكبير ليس فقط في التسويق للمنتج الزراعي، بل تذهب بنا لتجاوز الجوانب المادية من الإقتصاد... والتركيز على أهمية الفنون والثقافة ودورهما في إثراء حياة البشر وهو المعنى بالغ الأهمية الذي ألتقطه المترجم "شاكر عبد الحميد" في مقدمة ترجمته كتاب " الثروة الإبداعية للأمم: هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية للأمام" لمؤلفه مستشار التنمية بالبنك الدولي "باتريك كاباندا". بهذا يكون المهرجان فرصة ليحقق الدعاية اللازمة على المستويين المحلي والعالمي، مما يمنح رماننا المصري المحلي فرصة كبيرة لتنمية حقيقية وكبيرة تعود بالنفع على الجميع، بشكل مباشر يستفيد المُنِتج/ المزارع في تسويق منتجه، والذي يعني بالضرورة تنمية قدراته الاقتصادية ليدعم زراعته بما يناسب حاجة السوق من جودة وكمية، وهو ما يحقق للمستهلك بالضرورة فرصة مُنتج أفضل جودة، وكذلك توفير نقد أجنبي لإحتياطيات النقد بمصر.
للرمان سرديته التي تنتمي لنا وننتمي لها ولنا الحق أن نُسمعها للعالم. هناك في الأسواق يعثر المستهلك على ثمرة رمان ناضجة، لكن يحق لمزارعي البداري أن يخبروه عن ثقافتهم وحياتهم وحجم الجهد المبذول لتسقط هذه الثمرة بكفة الميزان قبل أن يحملها لبيته ويستمتع بطعمها الفريد ويتذوق انسياب طعم السكر بعد دفقة الطعم الحامضي sugary after salt، لربما دفعته الرواية لزيارة مصر ومزارع البداري يومًا، ليزور آثارها الأقدم عالميًا، ويستظل بأشجار رُمانها، ونحقق ما يعرف حاليا باسم السياحة الثقافية ونتوسع فيها بمصر مستقبلًا. وهو ما يستحق الحديث بمقال خاص.