أحمد الفران يكتب : المؤسسة الثقافية المصرية تبحث عن هويتها (2)

نابليون عاد بجيشه الجديد!. تمثل عودة الفرنسيون إلى صدارة المشهد الثقافي، نموذج عملي فريد فيما نعرفه حديثاً بـ "القوة الناعمة"، فقد استوعب الفرنسيون الدرس جيداً، وبدأوا يعدون العدة لغزو مصر مرة أخرى بسلاح الثقافة، فقناصلهم وبصاصيهم يتابعون الوضع الداخلي بكل دقة، وبلغت بهم المرارة مبلغها، من سيطرة الطليان على المشهد المصري، وكان على رأسهم رجلين من رجال نابليون المخلصين، وهما الماكر المهندس والجغرافي والمفكر آدم فرنسوا جومار (1777-1862) ، والإيطالي الأصل، الفرنسي الموطن والهوى، قنصل نابليون في مصر برناردينو دروفيتي (1776-1852). ففرنسوا جومار تجرع مرارة الهزيمة في مصر مرتين، كانت الأولى عندما أُخرج مرغماً مع باقي أفراد الحملة الفرنسية في 1801، والثانية وهو يتابع سيطرة الإيطاليين وقناصلهم ولغتهم على المشهد المصري مع دعم كامل من الوالي، ورغم ذلك لم ييأس الخواجة، فعمل على تطوير مشروع أستاذه المستشرق الفرنسي "فانتور دي بارادي" كبير مترجمي الحملة الفرنسية، حينما اقتراح على كليبر في أن يجتهد لجمع 500 أو 600 شخص من المماليك أو مشايخ البلدان ويسفرهم إلى فرنسا، فإذا ما وصلوا حُجِزوا مدة سنة أو سنتين، ليشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على لغتهم وتقاليدهم، فإذا ما عادوا إلى مصر، كانوا لفرنسا خير حليف، ويتكون منهم حزب يضم إليه غيرهم؛ غير أن خطة جومار قامت على استبدال المماليك ومشايخ البلاد، بفتيان وشباب حديثي العهد بالثقافة يمكن تشكيلهم بكل سهولة. أما دروفيتي فكان رجل نابليون المخلص في مصر، وكان الجندي الخفي وراء كبرى التحولات السياسية في مصر آنذاك، فقد تسلل إلى قلب وعقل الوالي، ونهب من مصر كل ما وقع تحت يده من آثار وبرديات ومومياوات وغيرها، ولك يا عزيزي أن تتخيل حجم ما فعله بمصر، أنه في عام 1824 باع لملك إيطاليا تشارلز فيلكس مجموعة مكونة من 5268 قطعة منها 100 تمثال و170 بردية بالإضافة إلى مومياوات وقطع أخرى متنوعة منها بردية تورينو التى قادت شامبليون لترجمة رموز اللغة الهيروغليفية للمرة الأولى، ومن تلك المجموعات أٌقيم المتحف المصري بتورينو "أكبر متحف مصريات بالخارج"، فأي لص ذلك منزوع الولاء والهوية!. اكتملت خطة نابليون بالعودة من جديد إلى مصر عن طريق ذلك الرجلين، تحت تأثير دروفيتي الذي أصبح قنصلاً لفرنسا بمصر، بعد عمله فيما سبق مستشاراً لمحمد علي، وجومار الذي تم تعيينه من قبل الباشا مراسلاً لشئون العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا، وذلك عن طريق استخدام أحد المصريين المقربين من الباشا في تنفيذ خطتهم، وهو عثمان نور الدين أول مبعوث مصري يتم إيفاده لأوروبا في 1809، وقد وقع الاختيار على عثمان من قبل يوسف بكتي قنصل السويد العام بالقاهرة كما ذُكر في خطاب بين موظفي القنصلية بالقاهرة آنذاك، وهو الخطاب الذي يحسم تاريخ سفر عثمان نور الدين لأول بعثة تعليمية إلى إيطاليا،وبحسب هذه الوثيقة يتبين لنا أن عثمان نور الدين، وصل إيطاليا وأقام بين بيزا وليفورنو لنحو خمس سنوات يتلقى العلوم الحربية والبحرية وفنون السياسة وإدارة الحكم، بعد ذلك انتقل إلى فرنسا في 1819، بهدف دراسة البحرية حيث التقى خلالهما المسيو جومار، حينها أحس جومار أن الوقت حان لتنفيذ خطته من جديد، فعثمان يتميز بالذكاء ويجيد العديد من اللغات على رأسها الفرنسية، وتوطدت العلاقة -كما ذكر كلوت بك في مذكراته- مما جعله يطلب من عثمان بشكل مباشر السعي لدى الباشا لإرسال بعثات تعليمية إلى فرنسا. عاد عثمان نور الدين إلى مصر في نهاية 1820، وكانت أولى أوامر الباشا إليه إلزامه بترجمة قوانين البحرية المعمول بها في فرنسا، وقد ترقى عثمان نور الدين إلى أن وصل إلى رئيس العمارة البحرية المصرية 1828، وما زال عثمان يُلح على الباشا في إرسال البعثات العلمية إلي فرنسا حتى أُرسلت أكبر وأهم البعثات التعليمية المصرية في 1826. الخطة اكتملت!. كانت خطة الفرنسيين محكمة للغاية، فقد عملوا على اختيار رجالهم المحطين بالوالي بكل دقة، حتى ينالوا ثقته من جديد، فسعت فرنسا برجالها وعلمائها وضباطها إلى مصر من خلال محمد على التى كانت تعتبره منفذاً ومتمماً لما بدأه علماء الحملة من أبحاث، وإكمال ما تعتبره الحملة إصلاحات، وأصبح هدفهم القضاء على النفوذ الإيطالي بمصر، وخاصة بعد السمعة السيئة التى أصبحت تحيط بالطليان في مصر، حتى بدأ الوالي في التخلص منهم الواحد تلو الأخر، وعندما تعقد المقارنة بين الطليان والفرنسيين، ستكون الغلبة للفرنسيين بكل تأكيد. وبالفعل، استطاع الفرنسيون بخطتهم الممنهجة، السيطرة على مفاصل الإدارة داخل مصر، وإزاحة كل ما هو غير فرنسي، فعلى المستوى العسكري، بدء ضباط نابليون يدخلون الخدمة بالجيش المصري الواحد تلو الأخر، ومنهم الكولونيل سيف "سليمان باشا" بمدرسة أسوان الحربية، الجنرال بلانات بمدرسة أركان الحرب، الجنرال بولونيني بمدرسة البيادة، الجنرال فارن والجنرال واسيل بك بمدرسة السواري. وعلى المستوى الطبي، بدء "كلوت بك" خطته هو الأخر لإزاحة الطليان، وكل الأجواء مواتية لذلك، فمستوى الطليان ينذر بكارثة صحية داخل دولة محمد على الحديثة، وهو ما نجده في وصف "ادوار جران" الأطباء المصاحبين للحملة المصرية على السودان بأنهم من "آفاقي اليونان والطليان" ، ونقل عن مسيو هامون ما لاحظه من أن الأطباء الأجانب في العهد الأول كان من بينهم "نادل في مقهي بالقاهرة، وصانع أحذية، وعامل تلغراف" وأن ثلثي هؤلاء الضباط كانوا بلا دبلومات"، فحين أن الدكتور "كلوت بك" الذي التحق لخدمة محمد على عام 1825، كان من أمهر الأطباء الفرنسيين آنذاك. أما المستوى الثقافي والفكري، انطلقت أول بعثة مصرية إلى فرنسا في عام 1826، ومنذ وصول تلك البعثة، عملت فرنسا على تقديم كل التسهيلات لهذه البعثة بغية نشر الثقافة الفرنسية في مصر، ومنذ ذلك ستظل مصر تحت هيمنة الثقافة الفرنسية في شتى نواحيها الفكرية، ذلك الوضع الذي سيمتد حتى 17 مارس 1897، مع إصدار الأمر العالي بتعيين البريطاني دنلوب سكرتير عام نظارة المعارف. كان عدد أعضاء هذه البعثة ثلاثة وأربعين طالباً، ثم أُلحق بهم إمامها الشيخ رفاعة الطهطاوي كان منهم 18 طالباً فقط من ذوي الأصول العربية الذين تخصصوا في الأساس في دراسة الطب والعلوم الصناعية، بينما كان أربعة طلاب من ذوي الأصول الأرمينية، أما الباقي فقد كانوا من ذوي الأصول التركية وتخصصوا في العلوم العسكرية والإدارة، و، وقد استقبلهم "جومار" عضو المجمع العلمي الفرنسي، مخطط الغزو الفرنسي الجديد. لتأتي اللحظة الحقيقية لانطلاق الدولة نحو تحديث أفكارها وإدارتها على النمط الغربي، لحظة عودة هذه البعثة إلي مصر في 1831، ولم يكن من العجيب أن ينشأ ديوان المدارس في أعقاب عودة البعثة، وأن يكون أول ناظراً لهذا الديوان مصطفى بك مختار أحد طلاب البعثة ، وأن تنشأ مدرسة الترجمة في 1835، وأن يكون رفاعة الطهطاوي العضو الوحيد في البعثة المتخصص في الترجمة أول رئيساً لها، كما سيصبح أعضائها كبار أدوات الحكم والثقافة في مصر، فأصبح عبيدي بك شكري رئيساً للمجلس العالي ثم مديراً لديوان المدارس، أما الأرمني أرتين بك تشراكيان فقد عين مديراً لمدرسة الإدارة الملكية، ثم بمجلس شورى المدارس، ثم سكرتيراً للوالي شخصياً ثم ناظرا للتجارة والأمور الإفرنجية "الخارجية"، كما أن اسطفان بك أصبح فيما بعد ناظراً للخارجية أيضاً. أحدثت البعثات زلزالاً فكرياً وثقافياً في مصر، كان أشد ضراوة من الحملة الفرنسية، والتى ينظر إليها الكثيرون بأنه نقطة التحول في تاريخ مصر المعاصر، ولكن في الحقيقة أن تلك النقطة بدأت فعلياً مع عودة البعثات الأوروبية وخاصة الفرنسية منها، كان الأثر الأكبر في ذلك الصراع الذي نشأ في مصر بين الشباب العائدين من أوروبا بعلمها وتطورها وبريقها، وما تلاهم من خريجي المدارس الجديدة؛ وبين خريجي الأزهر والكتاتيب، فلمن ستكون الغلبة؟، وما أثر على ذلك نشأة المؤسسة الثقافية الحديثة والممتدة حتى وقتنا الحالي؟.








الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;