وصلت الأم بالطائرة إلى العاصمة الأردنية عمان، وتوجهت مباشرة إلى المستشفى الذى يرقد فيه ولدها الضابط صلاح مصطفى، الملحق العسكرى فى السفارة المصرية بالأردن، وما إن رآها حتى حاول النزول من الفراش ليعرف كيف يقبل يدها، وعندما تسمرت عيناها على جسده الممزق، قال لها: «هل ترضيك رقدتى هذه؟، بودى لو أكلتهم بأسنانى»، وحسب عادل حمودة فى مقاله «الرجل الذى وصف لحظة وفاته» (الأهرام 2 يونيو 2001): «لم يكن بحاجة لأن يشرح من المقصود بضمير الغائب هنا فى كلامه».
كان يرقد فى المستشفى الإيطالى بعمان انتظارا للموت بعد انفجار طرد ناسف فى جسده فى مثل هذا اليوم «14 يوليو 1956»، وفور أن علم الرئيس جمال عبد الناصر بما جرى أمر بإرسال وفد طبى على رأسه اللواء طبيب مظهر عاشور، كبير أطباء الجيش، بطائرة حربية فى محاولة مستميتة لإنقاذه.
من هو صلاح مصطفى؟ ومن كان يود أن يأكلهم بأسنانه كما قال لأمه فأرسلوا إليه الطرد الناسف؟
«هو ضابط له تاريخ» وفقا لصديقه الكاتب أحمد حمروش، الضابط عضو تنظيم الضباط الأحرار الذى قاد ثورة 23 يوليو 1952، ويضيف فى رسالة كتبها إلى حمودة ونشرها فى مقاله: «الرجل الذى وصف لحظة وفاته»: «كان أول دفعته فى المدرسة الحربية، وكان من أفرادها عبد الحكيم عامر، وهو من المنصورة أصلا، والده كان تاجرا بسيطا، وتخرج ضابطا عام 1939 فى دفعة من الدفعات التى دخل فيها أبناء البسطاء المدرسة الحربية بعد معاهدة 1936، ليصبحوا لأول مرة ضباطا فى الجيش المصرى بعد أن كانوا أنفارا فيه، ولاشك أن ذلك هو ما جعلهم يشعرون بكل ما عبروا عنه فيما بعد من مشاعر وتصرفات وطنية».
أصبح ضابطا فى سلاح «المدفعية المضادة للطائرات» أو «الدفاع الجوى» الآن، وعضوا فى لجنة الإسكندرية للضباط الأحرار مع المقدم عبد الحليم الأعسر، وأحمد حمروش الذى يذكر فى كتابه «قصة ثورة 23 يوليو» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت)، أن منزله فى الإسكندرية شهد قبل يوم 23 يوليو 1952 مناقشة طويلة حضرها مجموعة من الضباط الأحرار بينهم البكباشى صلاح مصطفى، وشهدت دفاعا من جمال عبد الناصر عن حزب الوفد.
أما قصته فى الأردن فتؤكد على أننا أمام بطل فريد ينتمى إلى هؤلاء الذين يعطون ولا يأخذون، ففى 14 مايو 1955 تسلم عمله كملحق عسكرى فى السفارة المصرية بـ«عمان»، وفيما كان مصطفى حافظ يشرف على تكوين «جيش الفدائيين» فى غزة ليشن عمليات مقاومة ضد الاحتلال الصهيونى لفلسطين، كان صلاح مصطفى يشرف على هذه العمليات فى الأردن، ومن هنا قررت الدولة الصهيونية التخلص من الاثنين معا وبنفس الطريقة «الطرود الناسفة»، وفى 13 يوليو وقع تفجير «مصطفى حافظ» فى غزة، وفى اليوم التالى تلقى صلاح مصطفى طردا عبارة عن كتاب متوسط الحجم بعنوان «القائد الرجل» ألفه الجنرال الألمانى الشهير «فون روتشتد»، وما إن فتح صفحته الأولى، انفجر الكتاب فى جسده، وحسب عادل حمودة: «صم أذنيه الانفجار، وشاهد بنفسه يده تطير فى الهواء، وجسده يتمزق، وارتمى على الأرض، لكنه برغم ذلك تنبه إلى وجود أوراق سرية تحوى معلومات مهمة لا يصح إهمالها وتركها على المقعد الخلفى للسيارة مهما تكن الظروف، حتى لو كان يموت بطرد إسرائيلى مفخخ، وقال وهو يتلوى من الألم: «سلموه للسفير».
نقلوه إلى المستشفى الإيطالى فى عمان، وبعد ثلاثة أيام، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أمسك بيد زوجته وهمس لها: «اقفلى البيت وعودى إلى القاهرة، وخذى الأولاد معك ولا تقولى لهم شيئا حتى لا يحزنوا، أحب أن أراهم يضحكون كما كانوا دائما، لا تتركيهم لحظة واحدة، ضعيهم فى عينيك».
وفى يوم 26 يوليو 1956 تحدث عنه جمال عبد الناصر فى خطاب تأميم قناة السويس: «من أيام قليلة مضت استشهد اثنان من أعز الناس لنا، بل من أخلص الناس، استشهد مصطفى حافظ قائد جيش فلسطين وهو يؤدى واجبه، واستشهد صلاح مصطفى فى الأردن، وأشعر أن العصابات التى تحولت إلى دولة تتحول اليوم مرة أخرى إلى عصابات».