أثار التقسيم الذى سردته بالمقال السابق، حول تقسيم تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية الحديثة، إلى أربعة مراحل، العديد من التساؤلات، حول كيفية تقسيم تلك المراحل؟ وما الأساس العلمى لهذا التقسيم، ولماذا أربعة بالتحديد، لا خمسة أو ثلاثة مثلاً؟، ولا شك أن هذه التساؤلات قد أتت فى محلها.
فى الواقع كان هذا التقسيم نتيجة لخمس سنوات من الدراسة المتواصلة فى تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية الحديثة، حينما شرعت فى جمع تاريخ مؤسسات الثقافة فى مصر من خلال، الأوامر العالية، الأوامر الخديوية، الأوامر السلطانية، الأوامر الملكية، القوانين، القرارات واللوائح المنظمة لعمل المؤسسات الثقافية فى مصر، منذ قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، فى محاولة لفهم كيف نشأت هذه المؤسسات وتطورت حتى وصلت إلى صورتها الحالية.
بيد أننى لاحظت أنه هناك فواصل زمنية لعبت دوراً مؤثراً فى آلية عمل تلك المؤسسات، واختلاف أهدافها، وتنوع جنسيات القائمين على إداراتها، فضلاً عن الصبغة التى صبغت بها وهى ما نطلق عليه "الهوية"، تلك الفواصل التى بنيت عليها تقسيمى لتلك المراحل الأربعة، والتى لكل منها، أسبابه وحيثياته والتى سوف أعرضها بالتأكيد فى موضعها، والتى أؤكد أيضا أنها لم تصل إلى مرحلتها النهائية، والتى تحتاج إلى مراجعة عدد من الخبراء فى مجال السياسات الثقافية وهو ما يجرى حاليًا.
كما كان هناك دائما سؤال ما يطرح نفسه، هل هناك مؤسسة ثقافية مصرية قديمة، وأخرى حديثة، بلا شك هناك بالفعل نوعاً من المؤسسات الثقافية، فالمؤسسات الثقافية القديمة أشبه ما تكون مؤسسات تعليمية قائمة على تزويد طلابها بالمعرفة والعلوم، أما المؤسسات الثقافية الحديثة هى جزء أصيل فى الاقتصاد القائم على المعرفة، وأداة من أدوات الدول الكبرى فيما يعرف حديثاً باسم "القوة الناعمة".
على أية حال كان تقسيم تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية الحديثة على النحو التالى:
المرحلة الأولى: تبدأ تلك المرحلة من عام 1798 مع تأسيس المجمع العلمي، واستمرت طوال حكم محمد على، تلك الحقبة الحقيقية والأساسية لنشأة هذه المؤسسة، وتنتهى عام 1854، بمقتل عباس حلمى الأول، وقد سبقت الكتابة بالمقالات حول كيفية ظهور تلك المؤسسات، وكيف كانت إدارتها، وماهى أهدافها، ولكن ما ينبغى الإشارة إليه، أنه بالرغم من وضوح الهدف الذى أقيمت من أجله تلك المؤسسات، إلا أن هويتها تشتت بين الهوية العثمانية والإيطالية والفرنسية، والعربية.
المرحلة الثانية: تبدأ مع تولى محمد سعيد باشا، حكم مصر عام 1854، ومعه عاد الفرنسيون بكل قوة للمرة الثالثة، لتفتح أبواب المجمع العلمى من جديد، وفى 1859 أسست أول جهة حكومية مسئولة عن حماية التراث المصري، حين أقام أوجست مارييت مأمور لأعمال العاديات –الآثار- فى مصر، وبمرور الوقت تزداد سيطرة الفرنسيين على مقاليد الثقافة فى مصر مع تولى إسماعيل باشا حكم مصر، ليبدأ فى إقامة المؤسسات الثقافية على غرار مثيلاتها فى فرنسا، ومنها الأوبرا الخديوية، مسرح الأزبكية، الكتبخانة الخديوية وغيرها، متأثراً بما تعلمه فى سنوات بعثته بباريس.
شهدت المرحلة الثانية تحولات كبرى فى تاريخ الثقافة المصرية، ففيها ظهر المسرح بشكله الحالي، وانزوت بظهوره الأشكال التقليدية المصرية، والمتمثلة فى المسرح المرتجل، وخيال الظل؛ وزيادة ميزانية التعليم فى مصر، وتكليف على مبارك بوضع قانون التعليم، وإنشاء أول مدرسة لتعليم الفتيات فى مصر "المدرسة السنية"، تلك التحولات التى أستمرت فى عهد الخديوى محمد توفيق باشا، ليظهر معه أول اهتمام مصرى بالآثار العربية القديمة "الاسم الذى كان يطلق على آثار مصر القبطية والإسلامية" بتكوين لجنة حفظ الآثار العربية القديمة، وأبدى اهتماماً كبيراً بالمعرفة بإنشاء المجلس الأعلى للمعارف فى 1881.
استمرت تلك المرحلة على وتيرتها فى التنامى فى عهد الخديوى محمد توفيق "1879-1893" حتى مع دخول الإنجليز مصر، واستمرت حتى بدايات عصر عباس حلمى الثاني، ويبدو أن الإنجليز كانوا مشغلون فى بداية الأمر، بالسيطرة على مصر اقتصادياً لا معرفياً بعكس الفرنسيين، ذلك الوضع الذى استمر حتى عام 1897، ومع ذلك العام تبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية.
المرحلة الثالثة : بدأ الإنجليز خطتهم للإطاحة بالفرنسيين من سيطرتهم على الثقافة المصرية ومؤسساتها، وكان اولى خطوات ذلك تعين البريطانى دوجلاس دنلوب سكرتيرا عاماً لنظارة "وزارة" المعارف فى 17 مارس 1897، ليشرع دنلوب تحت رعاية اللورد كرومر فى تخريب وتفريغ المدارس، ومن ثم إحداث حالة من التشتت الثقافى والمعرفى للطلاب المصريين، ذلك الأمر الذى أزعج الفرنسيين، وفى محاولات يائسة لم يستطيعوا السيطرة على الأمر مرة أخرى، فكانت ثقافة ومصر وتراثها على مائدة مداولات الاتفاق الودى 1904 لتسوية النزاعات الاستعمارية بين الفرنسيين والبريطانيين، ورغم أن الاتفاق انتهى بإطلاق يد بريطانيا فى مصر، مقابل إطلاق يد فرنسا بالمغرب، إلا أن الفرنسيين تمسكوا بان تظل رئاسة مصلحة الآثار المصرية فى يديهم، وهو ما قبله البريطانيين.
وتأتى الرياح بما لا يشتهى الاستعمار، ليبدأ القرن العشرين وسط موجة عاتية من حروب عالمية ودعوات استقلالية من مختلف دول العالم، لتضعف قبضة الفرنسيين والإنجليز من السيطرة على الثقافة المصرية، وتبدأ حركة تمصير المؤسسات المصرية، ويتكون جيل من الرواد فى قيادة المؤسسات المصرية.
شهدت هذه المرحلة ظهور أشكال جديدة من مؤسسات الثقافة المصرية، فكان ظهور أول مدرسة للفنون الجميلة، وما تألها من حركة انتشار الجمعيات الفنية فى مصر، ظهور السينما المصرية، تأسيس المكاتب الثقافية بالخارج، ظهور الجامعة الشعبية "الهيئة العامة لقصور الثقافة" على يد أحمد أمين، تلك المرحلة التى انتهت فى يوليو 1952.
المرحلة الرابعة: كان لثورة يوليو الأثر الأكبر فى تحول مسار المؤسسات الثقافية الحديثة، حيث أولت الثورة للثقافة عناية كبيرة، لتولد معها "وزارة الثقافة" والتى اقترن اسمها فى بداية الأمر بـ "وزارة الإرشاد القومي" 1958، وكان التحول الحقيقى مع تولى الدكتور ثروت عكاشة وزارة الثقافة فى 1961، ثم الانطلاقة الثانية مع تولى فاروق حسنى وزارة الثقافة 1987.
ارتبطت المرحلة الرابعة بظهور عدد من المفاهيم الثقافية التى أصبحت تكون البناء الثقافى الحديث، مثل مصطلحات "التراث الثقافي"، "الصناعات الثقافية" أو "الصناعات الإبداعية"، "الإدارة الثقافية الحديثة"، وغيرها من المصطلحات التى أصبحت تشكل عماد إدارة الفن أو الثقافة بطريقة إبداعية، وللحديث بقية..