بلغتها الرصينة، وهدوئها المعتاد، أدارت الصديقة الأديبة باسمة العنزي أمسية مميزة للروائية "ريم بسيوني" إحدى أبرز كتّاب الرواية في الوطن العربي حالياً، وذلك ضمن فعاليات المقهى الثقافي في معرض الكويت الدولي للكتاب (45).
باختيار ذكي، افتتحت باسمة العنزي الأمسية باستشهاد قصير من رواية "سبيل الغارق" لبسيوني "الأسئلة تُخرج الحزن من الأعماق"، مستكملة: "أبحر إلى البحر الذي تجهله تصل، فلا عبور إلى النجاة في السبل التي نألفها"، وكأن العنزي بتلك الكلمات ترسم خطوط أسئلتها التي جاءت جميعها بعمق يغوص في روح (الروائية) ريم، ويتدثر بلغة (القاصة) باسمة.
حين انطلقت بسيوني بانسيابية المُحب، كانت تتحدث بأريحية من يتوسط عائلته؛ مع كل إجابة تحيطنا بذراعيها الأليفتين، وبلهجتها المصرية الحميمة تُسرّب لشفاهنا الابتسامات، وبمفرداتها البسيطة تتفاعل معنا بشعبية الأصدقاء.
كنا أمام (ريم) التي لم (تزوّقها) مقاهي الثقافة، ولم تُشوهها بهرجة الإعلام، ولم تدفعها الجوائز لبرج عاجي بأعمدة هلامية.
ببساطتها، تنقلت بنا بين أجواء رواياتها الأثيرة، تحمل بساطها الأحمدي، الذي افترشته مع أول سؤال من باسمة العنزي، لتُبهرنا بمقتنياتها الثمينة كصاحب (أنتيك) يسعد باستعراض كنوزه أمام جمهور مميز، يُدرك قيمة كل قطعة، ويتوق للتعرف على تاريخها.
حين حدثتنا عن تفاصيل مسجد السلطان حسن، لم أكن أرغب أن تتوقف، وحين فعلت لتنتقل لسؤال أحد الحضور، ظللتُ أنا أغرق في تلك اللحظة، كمن يرمي بنفسه في رمال متحركة، لا يرغب بأن ينتشله منها أحد، فرأيتني - كما يرى النائم- وأنا أدلفُ معها إلى حوش "بيت السحيمي"، بعد أن تجولنا بين دهاليز دكاكين الحسين، أحدّثها عن السحر الذي استحوذ عليّ لحظة زيارتي لدير "سمعان"، المحفور في مكان ما من قاع جبل المُقطم.. لنختم جولتنا على كوبري قصر النيل نستطعم (حمّص الشام) ونلوذ بدفئه من النسمة الباردة.
صحوتُ من الحلم لحظة انتهى السائل من سؤاله، بعد إجابة غنية من بسيوني، لمحتُ عينَي باسمة وهي ترمقني متوقعة مني تساؤلاً ما بشأن روائية تستحق الاهتمام، ومُنجز تعلم أنه يثير لدي الكثير من التساؤلات، فوددتُ أن أخبر باسمة بأني مكتفية بأسئلتها العميقة، ومستمتعة ببوح ريم الصديقة التي أعرفها قبل أن ألتقيها.
ربما ما وددت معرفته أجابت عنه بسيوني سواء في ردها على أحد أسئلة باسمة بخصوص فترة التوقف، أو في ردها على سؤال علاء الجابر بخصوص التباين الكبير بين نصوصها الأولى والتاريخية، على المستوى اللغوي والأسلوبي، الذي يجعلنا كأننا نتعاطى مع كاتبتين مختلفتين، فكانت إجابتها مقنعة، صادقة، بلا فذلكة.
ربما لفتت نظري إشارتها لكلمة (الإلهام)، وكنت أتمنى أن تتوقف باسمة عند رؤيتها ووجهة نظرها حول ماهيته، ومدى إيمانها به.. لكن ضيق الوقت لم يكن يسمح بذلك، بل إنني علمتُ لاحقاً بأن العنزي لم تطرح إلا نصف الأسئلة التي في جعبتها، بسبب الوقت، وهو ما تمنيتُ معالجته في تلك الندوة؛ فهل يعقل أن تكون ندوة ريم بسيوني بهذا الوقت المحدود جداً، وهي الضيفة أولاً، اللامعة ثانياً؟! أعتقد أن الضيوف من خارج الكويت، يستحقون وقتاً إضافياً، وبخاصة إذا كانوا بهذا الألق.
الملحوظة الثانية التي أزعجتني في الأمسية، ذلك الزحام الذي تكدّس عند الباب بانتظار الندوة التالية، وبما أنها ندوة تتعلق بأدب مُغاير تماماً للأدب الذي اجتمعنا حوله في ندوة بسيوني، فكان رواد ومريدو تلك الندوة من الجيل الشاب والمراهق، كنت أتمنى أن ينتظر (الجمهور الشبابي) في بهو القاعة، كما فعلت بسيوني والعنزي ورواد ندوتهما، قبل الندوة السابقة، لا بشكل ملاصق لباب المقهى الثقافي، الأمر الذي ساهم كثيراً في التشويش على الضيفة والمُضيفة، وأدى إلى أن تستعجل مديرة الجلسة لتختم الندوة، في ظل الاستمتاع الواضح من الحضور.
رغم الملحوظات، شكراً لمن اقترح شخصية مبدعة تستحق الاحتفاء، ولمن منح فرصة إدارة الندوة لمبدعة أخرى معجونة بالقراءة والوعي، فالفعاليات الثقافية تكتسب قيمتها بمُنجز الشخصيات التي تعتلي منصتها للتحدث والإدارة، وبعمق علاقتها بالموضوع، وفي هذه الأمسية أحسن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الاختيار.