أفكر فى أوقات كثيرة فى رجال الدين عندما يصيبهم الهوس الدينى، فيرون المجد فى إسالة الدماء، ولعل حياة البابا أوربان الثاني، بابا الفاتيكان فى العصور الوسطى الذى أشعل شرارة الحروب الصليبة بين الشرق والغرب النموذج الأكثر وضوحا لهذه النوعية من رجال الدين.
كان البابا أوربان من مواليد فرنسا، وهو رجل ذكى سياسيا، وكان خطيبا مفوَّهًا، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له.
تولّى الكرسى البابوى مدة أحد عشرة سنة، وذلك من سنة (480هـ) 1088م إلى سنة (492هـ) 1099م، وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي.
اشتهر بأنه صاحب الحملة الصليبية الأولى فى التاريخ مدفوعًا بِأطماعه الدينيَّة والسياسيَّة، إذ أنه فى مجمعٍ كنسى عُقد فى مدينة كليرمونت بكنيستها سنة 1095م، ألقى عظةً حثَّ فيها أوروبا الكاثوليكية على الحرب لِتخليص بيت المقدس من المسلمين، ووعد المحاربين بأن تكون رحلتهم إلى المشرق بِمثابة غُفران كامل لِذُنُوبهم، كما وعدهم بِهدنةٍ عامَّةٍ تحمى بُيُوتهم خلال غيبتهم.
فى يوم 27 نوفمبر 1095 تغير التاريخ بعدما ألقى أوربان الثانى خطبته الشهيرة فى فرنسا، والتى فتحت الباب للغزوات الصليبية التى وفدت على الشرق لسنوات عدة مقبلة.
وصف المؤرخ جوستاف لوبون فى كتابه "حضارة الغرب" الخطبة التى ألقها البابا أوربان الثانى فى المجمع الدينى المنعقد فى كليرمونت بأنها نوبة حادة من الجنون.
وفى هذه الخطبة قال البابا:
"يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى فى تلك البلاد، بلاد المسيحيين فى الشرق، قلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها فى شهرين كاملين.. على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم، أنتم يا من حباكم الله أكثر من أى قوم آخرين بالمجد فى القتال، وبالبسالة العظيمة وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون فى وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوى قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا – الضريح الذى تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التى لوثت ودنست – لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التى تسكنونها الآن والتى تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بمن يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم فى الحروب الداخلية. طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، وأقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها فى ثمارها، هى فردوس المباهج إن المدينة العظمى القائمة فى وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى فى ملكوت السموات".
وبعدما انتهى البابا أوربان الثانى من خطابه نهض إليه الأسقف أدهمير دى مونتيلن وركع أمام قدمى البابا، والتمس منه الإذن بأن يلحقه بالحملة المقدسة، وأمام هذا الموقف المؤثر تحركت مشاعر المجتمعين وتدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا مثل أدهمير فى حماس منقطع النظير وحملوا الصلبان وحلفوا جميعاً على تخليص المدينة المقدسة وقد وصل عددهم إلى 300 ألف وإزاء هذا الموقف المتحمس لأدهمير – عينه البابا أوربان الثانى ممثلاً شخصياً ونائباً عنه ليوضح للجميع أن الحملة تحت إشراف الكنيسة، بل تحت إشرافه هو مباشرة.