مضت ثلاث ساعات بعد انتهاء مواعيد عملى، ظللت خلالها جالسًا إلى مكتبى لا أصنع شيئا سوى انتظار الإذن لى بالانصراف، فقد أجبرنى رئيسى الجديد على البقاء، ولم أجد ضرورة لذلك.
عندما غادرت الشركة كان قد تملكنى الغيظ، فنفست غضبى فى سيجارتى اللعينة، ثم تابعت سيرى إلى موقف الحافلات، لم أجد سوى كرسيًا شاغرًا فى آخر الحافلة، ألقيت عليه جسدي، فهاجمنى سيل من الأفكار والمشاعر السلبية، جعلنى أتذكر علاقتى بالمدير، والتى كانت تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، فهو لا يتصيد لى الأخطاء فقط وإنما يدفعنى إلى ارتكابها دفعًا، ثم يُقرّعنى بألفاظ ٍ نابية، بل ودأب فى الآونة الأخيرة على إزعاجى بكل ما أوتى من قوة، حتى ظننتُ أنه قد جاء خصيصًا من أجلى أنا، والسؤال الذى يشغلنى طيلة الوقت هو لماذا يفعل بى ذلك؟
انتبهت عندما وقعت عينى عليها وهى تصعد الحافلة، امرأة خمسينية ترتسم على وجهها ابتسامة صافية، ذات عينان خضراوان باهتة، وبقايا من مسحة جمال قد ذوى، ترتدى جلبابًا رخيص الثمن بدت عليه النظافة، كانت تحمل فى يدها كيسًا بلاستيكيًا يمتلئ بقطع الحلوى، قبضت عليه بكلتا يديها وضمته إلى صدرها، وكأنه طفلها الأثير إلى قلبها، والذى تخاف عليه الفقد.
تابعتها وهى تسير بخطوات هادئة بين الركاب، كانت توزع ابتساماتها الرقيقة وهى تعرض عليهم شراء الحلوى، قررتُ أن أشترى منها أكثر من قطعة، أصابتنى الدهشة عندما لم يشتر منها أحد، ولكن عندما وقفت أمامى فعلتُ مثل الآخرين.
وقفت بجوار باب الحافلة، والابتسامة لم تفارقها ثانية واحدة، على الرغم من امتناع جميع الركاب وأنا منهم عن إعطائها شيئا.
رأيتُها تتجاذب أطراف الحديث مع امرأة كانت تجلس على كرسى من الكراسى الأمامية، وابتسامتها لا تزال تًعلو وجهها، والحديث بينهما مُفعم بالود والتفاهم.
تعجبتُ مما رأيت، فقد كنتُ أنتظر منها أن تختفى ابتسامتها، أو تتلفظ ببعض الكلمات من أجل ترقيق قلوب الركاب، أو تهبط من الحافلة تجر أذيال الخيبة، لكنها لم تصنع أى شيء من ذلك، بل ظلت محتفظة بهدوء وخفة روح تتناقض مع مظهرها الخارجي.
توقفت الحافلة فالتفتت إلى الركاب وألقت عليهم السلام، ثم هبطت والابتسامة تضئ وجهها.
قبل أن تتحرك الحافلة تحرك شيء فى داخلى دفعنى إلى اللحاق بها، هبطتُ من الحافلة بلا تردد، استوقفتها متسائلًا: هل تعطينى قطعة حلوى بلا مقابل؟
زادت ابتسامتها وهى تفض كيسها، وتعطينى الحلوى قائلة: تفضل يا بنى، بالهناء والشفاء، نظرتُ اليها ودمعتان تهمان بالخروج من عينى تمكنتُ من منعهما.
وضعت يدى فى جيبي، فأخرجت ورقة نقدية دسستها فى كيس الحلوى، وقلت لها: شكرًا يا أمي.
نظرت إلى والفرحة تملأ وجهها والدموع تترقرق فى عينيها، غمغمت ببعض الكلمات، كان آخرها، " يا رب ".