أحمد الفران يكتب: كيف تشكلت ثروة مصر الفوتوغرافية؟

فى 7 نوفمبر 1839 بمدينة الإسكندرية كان العالم على موعد مع التقاط أول صورة خارج القارة العجوزة، لوالى مصر محمد على باشا بقصر رأس التين، لتكون تلك الصورة أولى محطات تشكيل ثروة مصر الفريدة والاستثنائية من الصور الفوتوغرافية، وبداية دخول مصر دائرة التوثيق الفوتوغرافى بخلفياتها العلمية والسياسية والتجارية والفنية، وأخذت أفواج المصورين من شتى الجنسيات تتوالى تباعاً على مصر. أتت تلك الصورة بعد أشهر قليلة من نجاح الفرنسى لويس داجير (1787-1851) تطوير أسلوب أكثر فعاليةً للتصوير الفوتوغرافى وأطلق عليه اسم "الداجيروتايب"، بعد عدّة سنوات من التجارب، وقد سجل داجير براءة اختراعه فى 19 أغسطس من عام 1839، وقامت الحكومة الفرنسية بشراء براءة الاختراع، واعتبرت داجير" بطلًا قوميًا. إنه من عمل الشيطان.. كيف أُلتقطت أول صورة بمصر؟ فى منتصف 1839 ومن مدينة مرسيليا الفرنسية انطلقت أحدى السفن لتشق مياه المتوسط فى طريقها إلى الشرق وعلى متنها الفرنسى فريديريك أوجست أنطوان جوبيل فيسكيه (1806-1893) بصحبة عمه الفنان إميل جان هوراس فيرنيه (1789-1863) -وكان والده وجده أيضًا رسامين مشهورين- ومعهما آلتين للتصوير من طراز داجير، وصلت السفينة إلى جزيرة سيروس اليونانية، ومنها إلى سانتورينى وكريت وسميرنا، وأخيراً مصر، أولى محطة لهم بالشرق. كانت أولى محطات جوبيل فيسكيه فى التصوير بالشرق، مع والى مصر محمد على باشا، فى قصر رأس التين بالإسكندرية، ولما تخلو من المهمة من الإثارة والمتاعب وهو ما رصده جوبيل فى كتابة " Voyage d'Horace Vernet en Orient, " بقوله "... على رتل من الحمير نذهب يوم السابع من نوفمبر إلى قصر رأس التين، تم إعداد كل شئ بدقة مسبقاً، نائب الوالى إبراهيم باشا ينتظرنا بفارغ الصبر وحوله الحاشية صامتون مثل الجدران، وفى عملية تستغرق دقيقتين فقط، كان وجه محمد على مشحون بالاهتمام، وعلى الرغم منه تكشف عيناه حالة من الاضطراب، ازدادت عندما غرقت الغرفة فى الظلام استعداداً لوضع الألواح فوق الزئبق، خيم الصمت المقلق والمخيف على الجميع، الأعناق ممدودة للأعلى، لم يجرؤ أحد منا على الحركة أبداً.. وأخيراً انكسرت حدة السكون بفعل الصوت المفاجئ لاشتغال الثقاب، ومع البرق الفضى ينعكس شكل رائع لذلك الوجه البرونزي، محمد على يقفز من مكانه مقبضاً على سيفه الذى لم يتخلى عنه لحظه وكأنه يخشى مؤامرة أو تأثير غامض، ويقطب حاجبيه البيضاء ويسعل .. ليتحول نفاذ صبر الوالى إلى تعبير محبب للاستغراب والإعجاب ويصيح : هذا من عمل الشيطان!". كيف تشكلت ذاكرة مصر المصورة؟ بعد بورتريه محمد على باشا، والذى يعد أول منتج فوتوغرافى لآلة داجير خارج القارة العجوز، كان سعيد باشا والى مصر أول من تؤخذ صورته بتقنية اللصق على الزجاج، ثم قام المصور الفرنسى الشهير جوستاف لى جراى (1820-1884) بتقديم أول مجموعة من الصور توثق عودة سعيد باشا من رحلة الحج عام 1861، ليصبح "لى جراى" بعد ذلك المصور الخاص لإسماعيل باشا، ويستقر للعيش بالقاهرة عام 1864 حتى توفى بها عام 1884 ويؤسس متجر للتصوير الفوتوغرافى إلى جانب عمله أستاذ للرسم وعُرضت أعماله عن مصر بالمعرض العالمى بباريس "إكسبو" 1867، وقدم ألبوماً مكوناً من 50 صورة لإسماعيل باشا تحت عنوان "رحلة فى صعيد مصر". ويمكننا القول أن منتصف الخمسينيات من القرن التاسع عشر كان نقطة انطلاق أول جيل من المصورين الفوتوغرافيين فى مصر، وكان أبرزهم الفرنسى "جالى مونيه" والذى كلفه الوالى عباس باشا الأول عام 1852 بالتنقيب عن الآثار وتوثيقها فوتوغرافياً، ليغادر القاهرة إلى الأقصر. وفى نهاية 1859 وصل الإيطالى أنطونيو بياتو (1830 - 1906) وشقيقه إلى القاهرة وظل هناك عامين قبل أن ينتقل إلى الأقصر حيث افتتح استوديو للتصوير الفوتوغرافى عام 1862 (حتى وفاته عام 1906) وبدأ فى إنتاج الصور السياحية للأشخاص والمواقع المعمارية بالمنطقة، وفى أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، بدأ أنطونيو فى شراكة مع المصور الفرنسى هيبوليت أرنو. شكلت صور بياتو لمصر نمط مختلف عن المصورين الآخرين العاملين فى المنطقة. ففى الوقت الذى ركز فيه معظم المصورين على عظمة الآثار والعمارة، ركز بيتو على مشاهد من الحياة اليومية. كما استطاعت عدسة بياتو توثيق حدث فريد فى مصر عام 1864، بعد تصويره لزيارة أعضاء بعثة الحاكم "إيكيدا ناجاوكي" اليابانية، الذين كانوا يزورون مصر فى طريقهم إلى فرنسا. وفى مدينة ليفربول أسس المصور الإنجليزى "فرانسيس فريث" (1822-1898) ستوديو للتصوير الضوئى فى ليفربول عُرف باسم "فريث وهايورد"، وسرعان ما قام فريث بتصفية جميع شركاته ليتفرغ كلية للتصوير الفوتوغرافى عام 1855، ليبدأ أولى رحلاته الثلاث إلى وادى النيل عام 1856، حيث سافر حاملًا كاميرا ضخمة (16 بوصة × 20 بوصة)، وبصحبته صديقه المهندس المبدع "فرانسيس وينهام" الذى عمل كفنى إضاءة، مستخدماً طريقة محلول الكولوديون، التى كانت آنذاك تقنية حديثة أفادت المصورين فى الأجواء الحارة والمتربة، لتستحوذ مصر على معظم أعمالها والتى خرجت فى خمسة ألبومات مختلفة وصدرت بين عامى 1858 حتى 1864. وأشتد تبارى المصورون من مختلف الجنسيات فى تقديم أفضل ما لديهم من لقطات حول الآثار والحكام والحياة المصرية، ففى عام 1862 قدم لنا المصور الألمانى "وليام هامر شميدت" الألبوم الأول له "الآثار المصرية القديمة" 1862 والثانى "حكام مصر"، وكانت صور شميدت تتميز بالتقنية العالية والحفاظ على طابع الإضاءة الساطع لمنطقة جنوب المتوسط، وعرضت أعماله بالمعرض العالمى فى باريس وطبقاً لموسوعة فوتوغرافيا القرن التاسع عشر فإن صور إحتفالات افتتاح قناة السويس1869م والتى طافت العالم ونشرت على نطاق واسع بعد هذه المناسبة تعود إلى شميدت، أما البولندى "جاستين كوزلوسكي" فقد أصدر ألبومه الوحيد حول إنشاءات قناة السويس، ضمن فيه صور للإنشاءات والأبنية وأعمال البناء فى القناة منذ 1869. أما الفرنسى "إيبوليت أرنو" Hippolyte Arnoux كان من أوائل من استطاعوا بالتصوير الفوتوغرافى توثيق عمليات حفر قناة السويس فى ستينيات القرن التاسع عشر ونشر هذه الصور فى ألبوم سماه "ألبوم قناة السويس" (Album du Canal de Suez)‏، وفى أثناء ذلك قام بإنشاء اول ستوديو للتصوير بمدينة بورسعيد، وعمل بشكل متقطع مع ستوديو "أدلفوى زنغاكي" الفوتوغرافى فى بورسعيد، وفى نهايات ستينيات القرن التاسع عشر عقد شراكة مع المصور البريطانى الإيطالى "أنطونيو بياتو" . كما أسس الأخوان زنجاكى جورجيوس (1845م- 1895م) وقنسطنطين (1845م- 1916م) ستوديو خاص للتصوير مدينة بورسعيد، وذلك من أجل استغلال مكانة بورسعيد كمحطة رئيسية لكل المسافرين عبر البحور لبيع الصور واللوحات التى جمعها زنغاكى على طول نهر النيل وتوثق للحياة والعمارة والآثار المصرية. بعد أن أصبحت مدن القنال مركزاً للتصوير الفوتوغرافى فى مصر لا يقل أهمية عن القاهرة بمركزيتها أو الإسكندرية بجاذبيتها أو الأقصر بزخمها أو أسوان بسحرها. أول قضايا الملكية الفكرية في التصوير في تلك الأثناء برزت قضايا حقوق الملكية الفكرية للتصوير بعد مقاضاة أرنو لأدلفوي زنجاكي والألماني "سبيريديون أنتيبا" متهمًا إياهم بنهب ملكيته الفكرية. لينجح أرنو في 29 يونيو 1876 في ذلك بعد أن أقرت محكمة الإسماعيلية بأنهم "مذنبون باغتصاب الملكية الفنية والصناعية والمنافسة غير المشروعة". وفي سبعينيات القرن التاسع عشر ظهر الجيل الثاني من المصورين، وكان أبرزهم الفرنسي المصور الفرنسي "ايميل بيشار" والذي ولد عام 1840، واستقر بمصر للعيش بحي الموسكي عام 1869، وتخصص في تصوير الحياة المصرية في سبعينات القرن التاسع عشر، حيث وثق من خلال صوره شكل المتاجر واصحابها وكذلك الباعة الجائلين والراقصات والفلاحين آنذاك الى جانب تصوير المعابد والمواقع الأثرية بالأقصر وأسوان ، وأقام ستوديو خاص للتصوير الفوتوغرافي بالأزبكية، ثم عاد لفرنسا وحصل على. الميدالية الذهبية في التصوير بالمعرض العالمي بباريس عام 1889. كما أسس اليوناني "كلاميتا" ستوديو خاص به بحديقة روزيتي بالقاهرة عام 1877. وشهد منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، نزوح عدد من المصورين الأرمن إلى مصر، ولعل أبرزهم "عبد الله إخوان"، "ليكيجيان" واللذان استمرا على عرش التصوير الفوتوغرافي لما يقارب العقدين. بعد الشهرة الواسعة التى حققها" عبد الله إخوان" بالإستانة في الدوائر العثمانية والأوروبية دعاه الخديوي توفيق للقدوم إلى مصر لـتأسيس الفرع المصري لمؤسسة "عبد الله إخوان"، ويعلنوا عن افتتاح أول فرع لهم بالقاهرة في 14 مارس 1887 بجوار قصر نوبار باشا في قنطرة الدكة بباب الحديد. وعلى الجانب الأخر استطاع" ليكيجيان" أن يحجز لنفسه مكانة متميزة في اوساط المصورين، بعد أن حظي بشرف تمثيل مصر دولياً في معرضي التصوير بشيكاغو وباريس، كما نجده يرمي نفسه في أحضان الإنجليز ويوقع على أعماله بلقب "متعهد جيش الاحتلال". ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت مهنة المصوراتي قد راجت في أنحاء المعمورة وحجزت لنفسها مكانة متميزة في أوساط الحرف والصناعات، وقد كشف الدكتور محمد رفعت الإمام في كتابه الرائع الماتع "تاريخ التصوير في مصر الحديثة" حول تعداد المصورين في مصر نهاية القرن التاسع عشر بأن أعدادهم كانت تتراوح ما بين 250 إلى 300 مصور ينتمون إلى جنسيات متباينة على النحو التالي: 40% فرنسيسون، 20.8% رعايا عثمانيون، 17.6 إنجليز، 6% ألمان ونمساويون، 4.4% إيطاليون، 4% أمريكيون، 4% يونانيون، 3.2% جنسيات مختلفة (هولنديون، روس، بولنديون، سويسريون). ظهور المصور المصري ما يثر العجب، أن المصريين بدأوا دخول عالم التصوير الفوتوغرافي معلمين لا ممارسين - بعد ما يقرب من ستين عاماً من التقاط أول صورة في مصر ظلوا يعملون كمساعدين للأجانب - مع نشر حسن أفندي راسم –الكاتب بمحكمة المنصورة الأهلية - أول مقالة تعليمية تحت عنوان "رسالة في الفوتوغرافية" يناير 1893، ثم ظهور أسماء أخرى في مجال التعليم الفوتوغرافي مثل صليب أفندي إلياس. وفي الأقصر أعلن المصور "عطية قديس" عن افتتاح ستديو خاص به داخل معبد الأقصر عام 1907 بالتعاون مع "سيف" حيث انطلقا ليصورا كافة معالم الأقصر، وخلال فترة الحرب العالمية الأولى غادر معظم المصورين الأجانب، فكانت وقتها فرصة كبيرة لعطية وشريكه سيف في تغطية، حقبة تاريخية، حفلت بالعديد من الأحداث الهامة حتى انتهاء شراكتهما 1933. ثم ظهر رائد الفوتوغرافيا المصري "رياض أفندي شحاته" والذي لقبته الصحافة ب"المصور المصري"، بعد أن حازت أعماله إعجاب الخديوي عباس حلمي الثاني في المعرض الزراعي الصناعي 1912، وذاع صيت شحاته بعد محاولاته لإتقان فن التصوير، فكان أول مصري يذهب إلى فرانكفورت بألمانيا لدراسة التصوير الفوتوغرافي، وافتتح ستديو خاص به بميدان الأوبرا، ليختاره الملك فاروق المصور الشخصي له ويكلف بتصوير الأسرة والاحتفالات الملكية حتى وفاته عام 1942.












الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;