تمر اليوم ذكرى بدء محاكمة الزعيم أحمد عرابى ورفاقه، بعد هزيمتهم فى معركة التل الكبير، لكن السؤال، هل كانت محاكمة العرابيين معروفة مسبقا ومرتب لها، ما الذى يتقوله الكتب فى ذلك؟
يقول كتاب "الزعيم الثائر أحمد عرابي" لـ عبد الرحمن الرافعى تحت عنوان "محاكمة عرابى":
اعتُقل زعماء الثورة العرابيَّة، واعتُقل أيضًا كثيرون من الضباط، وأُلقوا فى السجون رهن التحقيق والمحاكمة، وكثُرت السعايات والوشايات، فأخذ المغرضون يشون بخصومهم بتهمة أنهم كانوا من الخارجين على الخديو، حتى امتلأت السجون بالمتهمين، وبلغ عدد المقبوض عليهم أكثر من 39000 نفس.
ووضعت الحكومة يدها على جميع زعماء الثورة، ماعدا السيد عبد الله نديم، فإنه اختفى عن الأنظار ولم تستطع عيون الحكومة أن تعرف مقرَّه، وقُبض على كبار الضباط المعروف عنهم التشيع لعرابى أو الذين اشتركوا فى حوادث الثورة، وغصَّت السجون بكبار المعتقلين … نذكر منهم: عرابى باشا، ومحمود باشا سامى البارودي، ومحمود فهمى باشا، ويعقوب سامى باشا، وعبد العال حلمى باشا، وعلى فهمى باشا، وطلبة باشا عصمت (السبعة الزعماء)، وحسن باشا الشريعى وزير الأوقاف فى وزارتى راغب والبارودي، وعبد الله باشا فكرى وزير المعارف فى وزارة البارودي، إلخ …
وقد حوكم عرابى وصحبه أمام محكمة عسكرية مصرية بتهمة عصيان الخديو، واهتم بأمره منذ القبض عليه المستر ولفرد بلنت المستشرق الإنجليزي، الذى ناصره منذ ابتداء الحركة والمشهور بمناصرته لمصر والمصريين، وسعى جهده فى إنقاذ عرابى من الإعدام، ولم يكن هذا المسعى من صالح عرابى فى شيء؛ لأن حياته فى الواقع لم تكن لها قيمة بعد الهزيمة، وقد اختار له المستر بلنت باتفاقه مع السلطات الإنجليزية اثنين من المحامين الإنجليز، وهما المستر برودلى والمستر نابيه، للدفاع عنه أمام المحكمة العسكرية.
واستقر رأى الإنجليز على أن يقدَّم عرابى وصحبه أمام المحكمة العسكرية بتهمة عصيان الخديو، واستبعاد تهمة مذبحة الإسكندرية وتهمة إحراقها، وأن يعترفوا بجرمهم، وأن يستبدل الخديو بحكم الإعدام النفى المؤبد، وأن يصدر بعد ذلك مرسوم بمصادرة أملاكهم مع عدم المساس بأملاك زوجاتهم، وأن تقرِّر الحكومة لكلٍّ منهم معاشًا يفى بحاجتهم مع حرمانهم رُتبهم وألقابهم، فارتضى العرابيون هذا المصير، وعلى ذلك جرت المحاكمة، وكانت بعد الاتفاق المتقدم ذكره محاكمة صورية، عُرفت نتائجها قبل انعقاد المحكمة، ولم تدم سوى يوم واحد … إذ انعقدت المحكمة العسكرية برياسة محمد رءوف باشا يوم ٣ ديسمبر سنة ١٨٨٢ بوزارة الأشغال بقاعة مجلس الشيوخ السابق، الساعة التاسعة ونصف صباحًا لمحاكمة عرابى أولًا. ولم يكن الجمهور يعلم بالموعد المحدد لانعقادها، فلم يحضر الجلسة سوى نحو أربعين من النظارة، منهم عشرون من مراسلى الصحف، وكان مقررًا أن يتولى الاتهام أمام المحكمة العسكرية المسيو بوريللى رئيس قلم قضايا الحكومة، ولكنه تنحَّى عن الجلوس فى مركز المدعى العمومي، إذ رأى أن المحاكمة مهزلة متفق عليها من قبل، فجلس بدله قومندان الحامية الإنجليزية فى التحقيق، وأخذ مجلسه قريبًا من المكان الذى أُعد لعرابي، وبعد أن أخذ أعضاء المحكمة مجالسهم مرتدين ملابسهم الرسمية، جيء بعرابى من السجن.
وكان قبل مجيئه قد وقَّع على وثيقتين … الأولى يعترف فيها بارتكابه جريمة العصيان، ويتعهد فى الثانية بأن لا يبرح الجهة التى تعيِّنها الحكومة الإنجليزية لمنفاه.
دخل عرابى قاعة الجلسة مرتديًا بدلة عادية، وجلس فى المقعد الذى خُصص له، وجلس محامياه إلى جواره … فتلا عليه رءوف باشا رئيس المحكمة ورقة الاتهام مخاطبًا إياه بما يأتي: أحمد عرابى باشا … أنت متهم أمام هذه المحكمة بناءً على طلب لجنة التحقيق بجريمة العصيان ضد الجناب الخديوي، مخالفًا المادتين ٩٦ من القانون العسكرى العثمانى و٥٩ من قانون الجنايات العثماني، فهل تقر بالتهمة أم لا؟
فأجاب عرابي: "إن محاميى سيجيبان بالنيابة عني".
فتلا المستر برودلى بالفرنسية ورقة أمضاها عرابى وفيها يعترف بجريمة العصيان، وتلا كاتب الجلسة صيغتها العربية.
وعندئذٍ قرر رءوف باشا بأن المحكمة ستختلى للمداولة، وأن الجلسة أُوقفت على أن تنعقد فى الساعة الثالثة بعد الظهر.
وانعقدت المحكمة فى الموعد المذكور، وكان عدد الحاضرين فى هذه المرة كبيرًا … فلما فُتحت الجلسة أمر رءوف باشا كاتب الجلسة بتلاوة الحكم، فتلاه … وهو يقضى على عرابى بالإعدام، وتلا عقب صدور الحكم الأمر الخديوى بإبدال الإعدام بالنفى المؤبد، واستغرقت تلاوة الحكم وأمر الخديو بتعديله عشر دقائق، ثم انفضت الجلسة.
وحوكم زملاء عرابى الستة، وهم: محمود باشا سامى البارودي، ومحمود باشا فهمي، ويعقوب سامى باشا، وعبد العال حلمى باشا، وعلى باشا فهمى الديب، وطلبة باشا عصمت، بالطريقة التى حوكم هو بها؛ أى أنهم اعترفوا بجريمة العصيان، وقد رفض على باشا الروبى أن يدافع عن نفسه بواسطة المستر برودلي، ورفض الإقرار الذى كتبه عرابى فلم يحاكَم معهم … وصدر الأمر بنفيه عشرين سنة فى مصوع.
وفى ٧ ديسمبر اجتمعت المحكمة لمحاكمة كلٍّ من: طلبة باشا عصمت، وعبد العال باشا حلمي، ومحمود سامى باشا البارودي، وعلى فهمى باشا الديب، فحكمت عليهم بالإعدام، وتلا رئيس المحكمة أمر الخديو بتعديله إلى النفى المؤبد أيضًا.
وفى يوم ١٠ ديسمبر حوكم محمود باشا فهمى ويعقوب سامى باشا، فحُكم عليهما أيضًا بالإعدام مع تعديل الحكم إلى النفى المؤبد.
وأصدر الخديو أمرًا فى ١٤ ديسمبر بمصادرة أملاك الزعماء السبعة المحكوم عليهم وأموالهم، وحرمانهم حق امتلاك أى مِلك فى الديار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع، أو بأى طريقة ما مع ترتيب معاش سنوى لهم بالقدر الضرورى لمعيشتهم، وقضى هذا المرسوم ببيع أملاكهم، وما ينتج من هذا البيع من صافى الثمن يخصص لسداد التعويضات التى ستعطى لمن أصيبوا فى حوادث الثورة.
وفى 21 ديسمبر سنة 1882 صدر أمر خديوى آخر بتجريد السبعة الزعماء من جميع الرتب والألقاب، وعلامات الشرف التى كانوا حائزين لها.