فى رواية دفاتر الوراق للروائى الأردنى جلال برجس عدد كبير من الزوايا التى يمكن تأمل جماليات هذه الرواية عبر، فهى واحدة من الروايات ذات الحمولة الكثيفة من القيم الدلالية والمعانى والقضايا والأسئلة والطرح الفكري، وهذه الحكاية الضخمة الحافلة ليست مجرد بنية سردية للتسلية، وإنما وراء عالمها فلسفة ما وأفكار مهمة وأسئلة عميقة ومعلقة وتحتاج إلى تفكير وتأمل.
الزاوية الأولى التى يمكن النظر منها إلى قيمة هذه الرواية وبحث أهميتها بين الروايات العربية التى يمكن تناولها نقدية هى الزاوية الخاصة بالمضمون، ذلك لأن فى هذه الرواية فلسفة خاصة ونظرة مغايرة للكون وللحياة وللنفس الإنسانية المركبة والمعقدة والمتضمنة على الخير والشر بالدرجة ذاتها تقريبا، وكيف يمكن أن يكون السياق الاجتماعى فاعلا فى تشكيل الإنسان أو دفعه فى وجهة خاصة دون أن يكون قاصدا لها أو راغبا فيها. تقارب هذه الرواية فكرة التقمص أو التمثيل أو حلول الشخصيات ببعضها وتداخلها وتقارب حالات من المرض النفسى مثل الفصام والتهيؤات والهلاوس السمعية والبصرية وعددا آخر من الأمراض والحالات النفسية التى لها أساس علمي، مثل حالات من القهر والعقد ومركبات النقص الكامن أو المتلازمات النفسية. والأهم من كل هذا أن هذه الحالات لا تأتى منفصلة عن السياق الدرامى أو سمات العالم المسرود عنه أى أنها كلها يتم توظيفها فى بنية الحكاية وتصبح لها قميتها المورفولوجية أو التركيبية الواضحة، ويكون لكل شخصية على هذا النحو من التركيب المعقد أو ذات مرض نفسى وظيفتها فى تطور الحكاية أو العالم الدرامى ومنطقيتها.
لدينا مستويات يمكن مراقبة أى بناء روائى فى إطارهما، المستوى الأول هو بنية الحكاية أو العالم أو القصة التى تقوم عليها الرواية أو أى خطاب سردي، بشكلها المجرد أو بوصفها حكاية مقنعة أو وقائع منطقية وذات عناصر متفاعلة ومتدافعة بشكل سببى وطبيعى ومنطقي، والمستوى الثانى هو تحويل هذا العالم أو تلك الحكاية أو القصة إلى خطاب سردى يعتمد على التشويق ويكون فيها قدر كبير من التصرف السردى الذى يصنع جماليات الخطاب وتقنياته الخاصة ولغته وإيقاعه وغيرها من السمات الخاطبية أو مرحلة التخطيب واستراتجياتها ووضعياتها السردية التى تجعل الحكاية الواحدة يمكن أن تختلف اختلافا كبيرا من سارد إلى آخر أو منشئ خطاب سردى إلى آخر بحسب الموهبة فى السرد. طبيعى أن مخيلة السارد هى التى أنشأت هذا العالم وكونته أو علمت على تنميته وتطويره، وهذا الفصل بين الحكاية والخطاب ليس فصلا تاما وتعسفيا، بقدر ما هو تجزئة لمراحل التناول بما يمكن من مزيد من الإضاءة للعمل ومقاربته من أكثر من جانب وعلى نحو يتسم بالعلمية والتفصيل والتقسيم إلى عناصر والابتعاد عن الأحكام المطلقة.
فى عالم هذه الرواية كم هائل من التركيب المنطقى والتفاعل الضخم بين عدد من الحالات والشخصيات أو النماذج الإنسانية التى تصبح كل واحدة منها أو كل نموذج إنسانى منها دالا على إما على نزعة فلسفية أو حال نفسية معينة، وتصبح هذه الحالات كلها فى تفاعلها أو تقاطعاتها مدفوعة ببعضها وعلى قدر من التشابك الشجرى والتناغم والتكامل فى الأدوار والوظائف. هناك شخصيات حقيقية وشخصيات متخيلة أو يتم تقمصها وتأتى إلى عالم الرواية عبر التحاور أو التداخل مع نصوص روائية شهيرة. وفكرة الوراق الذى يتقمص ما قرأ هى التقنية المحورية المنطقية لاسترفاد كل هذه الشخصيات وجعل عالم الرواية منفتحا على عوالم أخرى أرحب سواء من ورايات عربية أو غير عربية من روسيا وفرنسا أو شخصيات غير ورائية مثل الشاعر المجرى أتيلا يوجيف. وإلى جانب هذا التشعب الضخم فى النماذج الإنسانية والشخصيات التى تمثل كل منها قصة فرعية قائمة بذاتها، فإن هناك امتدادا كبيرا على مستوى الزمن الذى ربما نقول إنه يبدأ من هزيمة العرب فى حرب فسلطين فى 48 ويصل إلى عصر التكنولوجيا والفيس بوك أى الزمن الراهن دون تحديد صارم لسنة. وهناك نمط سردى جيد لكونه غير مباشر فى تحديد الإطار الزمنى المعتمد بدرجة أكبر على الوقائع أو الحوادث الشهيرة أو تحديده عبر العلامات الدالة على اللحظة مثل التطورات والتحولات الاجتماعية أو غيرها من المحددات غير المباشرة التى تسهم فى توسيع مساحة تفاعل المتلقى مع الخطاب السردى وأن يكون شريكا فى الاستنتاج أو إنتاج المعنى وتأويل الخطاب.
تصبح أسرة الشموسى حلما ضائعا ونكبة كبرى ورمزا لكل سقوط أو فشل غير مبرر بشكل كامل، تبدأ مفعمة بالحلم والأمل والرغبة فى التحرر من العبودية غير المباشرة لكونها مستغلة على الدوام من غيرها من الطبقات الأخرى، وكان أملها فى التحرر منقعدا على العلم دون أى شيء غيره، بالطبع راهنت على الكفاح أو الجهاد والحرب لكنه لم يمنحها غير مزيد من الخسارة والألم والفقد، وكانت صدمتها أيضا مع العلم أو المعرفة؛ لأن فشل الابن جاد الله فى تحقيق حلم أبيه بأن يكون طبيبا مثل نيقولا لم يكن إلا الانتحار المؤجل للجميع، أو الهزيمة الكبرى للأسرة كلها. لم يكن الابن خائنا للأسرة أو متعمدا لكنه سحب أو انفلت إلى براح أكبر منه، هذا البراح المعرفى المرتهن بالسياق وتلك اللحظة التى كان فيها استقطاب كبير وشره بين اليمين واليسار، بين معسكرى الرأسمالية والشيوعية وقد انجذب الابن الحالم بفعل محددات أسرته والكامن فى تاريخها إلى الشيوعية حتى غرق فيها، بدوافع إنسانية وتاريخية راسخة فى تكوينه ودون إرادته، وهكذا يكون الإنسان محددا بهذا التاريخ وما ترسخ فيه من الدوافع الكامنة أو الخفية التى ستتجلى فى لحظة معينة فى خيار خاص يصبح مصيرا أو قدرا محتوما ليس له وحسب، بل لعائلته أو لدائرته الاجتماعية.
تغرق الشخصيات فى دوامات من الانحيازات والمرض النفسى الغامض فى أسبابه والواضحة فى مظاهره وأفعاله، وبعضها يكون موروثا، وهذا أمر طبيعى ومنطقي. من الشيوعية الواضحة النبيلة إلى حال من الانهزام والانتحار الفلسفى ثم الجسدى بالنسبة للأب/ جاد الله، ثم إلى حالات من الانسحاق أمام الآخرين والتمثيل أو التقمص والمرض والفصام أو الفلسفة الكلبية بالنسبة للابن إبراهيم الوراق. إن تقمص إبراهيم الوراق لشخصيات كتبه حالا نفسية أكبر بكثير من مجرد اللعب أو التوهم، بل هى نوع من الانسحاق النفسى أمام الآخرين، حال من الهرب من الذات والرغبة فى الاختباء وراء هذه الشخصيات. يتخفى من أمراضه فى أمراضهم وسماتهم، ولهذا ربما كان تحذير الأب لابنه من هذه اللعبة منطقيا، وكاد يمنعه من قراءة الروايات وهو اليسارى الذى دفعه إليها أصلا. يبدو أن الأب أدرك الخطر لكنه لم يكن يملك القدرة على التحذير منه أو القدرة على تفاديه. الابن الذى يتبنى فى لحظة فلسفة ديوجانس الكلبى أو ديوجين هو من البداية خاضع للعبثية والعدمية التى تمكنت من الأب، وكل عقده أو مركبات نقصه منقولة له عن الأب أو مرتحلة بشكل طبيعى منه إليه. لقد نفذت خسارات الأب وخيباته إلى الابن عبر الثقب الغطاء الذى كان يرى الابن منه أباه وهو يبكى بعدما خرج من السجن. وبدلا من أن يصبح الأب حاميا وسندا وقوة كبيرة تحمى الأبناء يتبدل إلى مصدر للقهر ودليلا على الانهزام وعلامة على العجز الأكيد، وربما لهذا كره إبراهيم الوراق أباه وكانت بداخله دوافع قتله. وإذا كان الجد أكثر صلابة وقدرة على تحمل ما سببه له ابنه من خسارة فإن الابن لم يحتمل، لتكون شخصية جاد الله فى هذه الرواية هى المعبرة عن محورية الخسارة والحلم الضائع وبؤرة العجز والضعف الذى انفجر فى العائلة كلها فاستوعب وغطى تاريخها قديما وحديثا، أى قضى على ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
الخلاصة أن عالم هذه الرواية جاء على قدر كبير من التراكب والتعقيد والتشابك بين عناصره، وبين تدافعها أو تطورها وبلوغها إلى ذروة الأزمة الأساسية، بالإضافة إلى أكثر من ذروة فرعية أخرى فى كل قصة فرعية. وكان عالم هذه الرواية على قدر من الثراء فى حكاياته وشخصياته بما يصور ويشكل لوحة عامة لوطن أو لمجتمع وبما يتجاوز الدلالة الفردية للحكاية بأن تصبح حالا عامة أو دالة على تاريخ عام من السقوط والخيبات والانهيارات.
فيما يرتبط بالخطاب السردى والناحية البنائية فإن هذه الرواية تجمع بين كثافة الحيل والتقنيات الفنية وبين العفوية فى الصوت السردى والبوح، فتحقق بذلك معادلة جمالية مهمة فى المراوحة بين التعقيد والتحايل لصناعة التشويق، وبين البساطة والعفوية التى تجعلها أقرب لتجميعات من البوح والاعترافات الشفاهية والكتابية وتدوين التاريخ. ثمة حيل وتقنيات ترتبط بالزمن وترتيبه وتقنيات الاختزال والاختصار والتكثيف والاستباق والاسترجاع بما يجعل الرواية على قدر كبير من التشويق وتهيمن على المتلقى وتجعله مشدودا إلى استكمالها وراغبا فى كشف الغامض والمعروف فى إطار من غير المكشوف عنه أو المحجوب عن المتلقى أو العنصر الذى يتم تأخيره. وفى هذا الإطار الخاص بالإخفاء أو الإرجاء والتأخير للعنصر الذى يصنع التشويق نجد أن هناك توظيفا مثاليا لتقنية سرد الأصوات المتعددة أو اختلاف التدوينات والكتابة، فالرواية أقرب لنموذج لرواية الأصوات، لكنها تأتى وفق استراتيجية معدلة أو غير نمطية تمزج بين الصوت وبين تقنية الكتابة داخل الكتابة أو تدوين المذكرات والاعترافات واليوميات. فيكون الخطاب السردى مهيمنا على عدد من البؤر السردية أو وجهات النظر المتعددة التى تصل إلى نقطة معينة وتجتمع فيها أو تتلاقى دون أن يكون هناك تعارض أو صدام أو ارتباك، بل تستمر البنية المتشابكة والتقاطعات الوظيفية على فاعليتها أو وفق ما تم طرحه فى أول الرواية دون أى تناقض.
تستثمر الرواية حالا كثيفة من الاندفاع نحو الشر لتسمد منها عناصر تشويقية تجعل الرواية أقرب إلى البوليسية، ذلك لأن طاقات الشر الكامن أو الممتزج بالشخصيات تجعلنا أمام عدد من الجرائم الغامضة أو الغريبة من القتل أو السرقة، فى إطار من التشويق الكبير المرتكز على إرجاء المصير واحتمالية كشف الجريمة، أو ذلك البطل الذى يمضى إلى مصير سوداوى أو بائس ويراقبه المتلقى وهو ينتحر بأشكال مختلفة، فإذا كان فى البداية مشدودا لكونه سينتحر أو يبحث عن مهرب من وجود قاس فى الجزء الأول فإنه فى المرحلة التالية سيكون مشدودا لمعرفة مصير اللص الشريف الذى يقوده شيطان يسكن بداخله. والحقيقة أن الرواية فى كافة جوانبها ومراحلها تحتوى على متيفات ومحفزات تشويقية عديدة، ووراء كل وحدة سردية معلنة وحدات أخرى يسأل عنها عقل المتلقى أو يحاول معرفتها. على سبيل التمثيل دوافع هذا المصير الكابوسى أو أسباب الرغبة فى الانتحار، أو حتى الدافع لمشاعر التضامن مع أطفال الشوارع وأسبابه. لتكون الرواية فى تقديرنا نموذجا للرواية التشويقية ذات الطاقات المتنوعة والبعيدة فى الوقت نفسه عن الافتعال.
فى الرواية كذلك جانب مهم يرتبط بتوظيف التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى على نحو جيد ومتشابك ووظيفى فى عالم الرواية ونماذجها، فنجد أن الفيس بوك تحديدا يلعب دورا حاسما فى البنية الدرامية مع وسائل التكنولوجيا الأخرى مثل جوجل ومصادر البيانات والمعلومات، وما يمكن أن تؤديه من أدوار اختراقية للمعلومات التى يتم استغلالها من آخرين حولنا. وعلى مستوى ما يعرف بمرجعيات الخطاب السردى وروافده ومصادره المعرفية يمكن أن تكون الرواية على قدر كبير جدا من الثراء لكونها استلهمت عددا كبيرا من الروايات والأعمال الأخرى وتحاورت معها أو ارتكزت على معطياتها وتحاور الخطاب السردى كذلك وتحاور مع خطابات وبنيات ثقافية أخرى مثل الأغنية أو الدراما والمسرح، والحقيقة أنها رواية على قدر كبير من الثراء لكونها جعلت عالم مدينة عمان العاصمة الأردنية عالما متسعا ومتشعبا وحافلا بالحركة والحيوية ويتراكب من طبقات كبيرة وعميقة من التحولات الثقافية والاجتماعية وتتجلى فيه حفريات ثقافية عديدة من غرس العقود الأخيرة، كما عبرت عن حالات من الظلم أو الفساد أو مالت الرواية إلى تجسيد الحال الجمعية أو صنعت خلفية جماعية جسدت شكلا أقرب إلى الجوقة فى تشكيل موسيقى أو غنائى كبير، وتجسد الصوت الجمعى عبر توظيف للفيس بوك وحالة الرأى العام فيه ورأينا كيف يمكن أن يكون الفن الروائى كاشفا عن حالات مرضية فردية وجماعية فى الوقت نفسه، ذلك لأن نزوع الناس إلى مناصرة اللص وتحويله إلى بطل شعبى إنما وراءه حالة مرضية على المستوى الاجتماعى لا يمكن تجاهلها فى سياق قراءة الرواية ومقاربة معطياتها، فتلك الحال الجماعية كاشفة لمرض اجتماعى وحالة من الانحدار أو الفساد كوّن شعورا عميقا بالظلم لديهم، فهو تجل لصراع طبقى قد يؤدى إلى انفجار.