لم يتوقف إبداع المصريين القدماء عند علوم الفلك والطب والعمارة وغيرها، بل تعدى ذلك إلى تكنولوجيا التصنيع للمواد المختلفة، ومن منطلق حرص المصرى القديم على زخرفة منشآته الدينية من معابد ومقابر استعدادا للحياة الأخرى فقد احتوت المقابر المصرية القديمة بجانب الأثاث الجنائزى ومقتنيات المقبرة الأخرى من مشغولات وأدوات ذهبية ومحلاة بأحجار كريمة وغيرها من كنوز فقد اهتم المصرى القديم بزخرفة جدران مقابره ومعابده واستخدم فى ذلك ما وفرت البيئة المحيطة من خامات طبيعية تميزت بثباتها ومقاومتها ضد عوامل الزمن والتغيرات.
وعندما لاحظ المصرى القديم أن بعض المواد غير متوفرة بكثرة كخامات النحاس من الأزوريت والمالاكيت أو ملاحظته الدقيقة لعدم ثباتها فقد لجأ إلى تحضير مادة أخرى يستخدمها للتلوين باللون الأزرق وكانت النتيجة هو إنتاجه لأقدم مادة محضرة صناعيا فى التاريخ وهى "الأزرق المصرى".
فمادة اللون الأزرق المصرى كان طفرة تكنولوجية فى مصر القديمة وبدأ استخدامها من عصر الدولة القديمة "الأسرة الرابعة 2575–2467 ق.م" واستمر استخدام هذه المادة للتلوين باللون الأزرق بدون انقطاع حتى العصر الرومانى، وتم تصدير تلك التكنولوجيا إلى الحضارات الأخرى مثل الحضارة الإغريقية والرومانية.
فهذه المادة عبارة عن سيليكات النحاس والكالسيوم أو الكابروريفايت (CaCuSi4O10) وكانت تحضر بتسخين مجموعة مواد أساسية لازمة لتحضير اللون وهى خامات النحاس أو بعض سبائك النحاس مثل البرونز خاصة فى عصر الدولة الحديثة، إضافة إلى كمية وفيرة من الرمال بجانب مسحوق الحجر الجيرى ونسبة قليلة من ملح النطرون، والتى كانت تخلط سويا فى شكل كرات وتسخن فى درجات حرارة تتراوح ما بين 800 إلى 1000 درجة مئوية، ويكون المنتج النهائى ذو لون أزرق مميز زاهى وحبيبات بلورية متفاوتة الأحجام ذات درجة ثبات عالية لحد كبير.
وبعيدا عن أهمية اللون فى مصر القديمة واستخدامه فى تلوين وزخرفة المقابر والمعابد وغيرها من مقتنيات وأدوات وروعة تكنولوجيا تصنيعه التى ارتبطت بمصر، فقد أثبتت الدارسات الحديثة حول هذه المادة ومنها بحث منشور من فترة ليست بالبعيدة بمجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية، فقد فوجئ الفريق البحثى من جامعة جورجيا الأمريكية أن سمك بللورات مادة الأزرق المصرى لا تتجاوز سمك شرائح النانو بالغة الدقة (أدق 1000 مرة من سمك شعرة الإنسان).
ومنذ عام 2009 تمت ملاحظة أن الأزرق المصرى ليس فقط مجرد مادة ملونة قديمة ولكن له سمات وطبائع خاصة وهذا ما يؤكده فى أبحاثه الدكتور Gianluca Accorsi الباحث فى علوم النانو بمركز البحوث الوطنى الإيطالى CNR أن الأزرق المصرى عند تعرضه للضوء المرئى تنبعث منه أشعة تحت حمراء قريبةNIF.
وكما تبين نشرة المتحف البريطانى فإن هذه الميزة الموجودة فى مادة الأزرق المصرى وانبعاث أشعة تحت حمراء قوية منه عند تعرضه للضوء المرئى تفيد فى التعرف على حبيبات هذه المادة نفسها ولو على مسافة بضع مترات وهى خاصية تفيد فى التعرف على بقايا ضئيلة جدا من عينة المادة الأثرية وهذا ما تم تطبيقه بالفعل من قبل المتحف البريطانى فى التعرف على بقايا لونية من منحوتات رخامية من معبد البارثينون اليونانى.
ومن ناحية أخرى فإن هذا يمكن أن يكون له تطبيقات عديدة فى مجالات مختلفة، حيث إن هذه الأشعة المتولدة "الأشعة تحت الحمراء القريبة" التى تخترق الأجسام بشكل أكبر من غيرها من الموجات وعليه يمكن أن تكون لها تطبيقات عديدة خاصة فى وسائل الاتصالات والتحكم عن بعد سواء التلفاز أو السيارات أو الطابعات النافثة للحبر Inkjet printers وغيرها وكذلك توليد أشعة الليزر ذات التكلفة العالية نوعا ما وكذلك تطبيقات طبية فى أجهزة الفحص بالأشعة للأنسجة البشرية.
وفى دراسة لباحثين من جامعة كورتين فى أستراليا تبين أن هذه الميزة تفيد المحققين فى التعرف على البصمات خاصة على الأسطح اللامعة، حيث قام الفريق البحثى بطحن مادة الأزرق المصرى لمسحوق ناعم وتعريضها لأشعة الضوء ثم تم التقاط الأشعة المتولدة بواسطة كاميرات حساسة.
وتعتبر مكونات الأزرق المصرى رخيصة حيث نحتاج لتحضيره توفر خامات من النحاس والحجر الجيرى ومواد قلوية صهارة والتى تتوفر بكثرة فى مصر، وهذا يعطى الأزرق المصرى ميزة أخرى عند توليد الأشعة تحت الحمراء القريبة بتكلفة اقتصادية قليلة واستخدامها فى مجالات صناعية وطبية عديدة.
وعليه فقد نجح المصرى القديم فى إبهار العالم قديما وحديثا بعبقريته ونتاج تجاربه وخبراته بشكل تشهد له عيون العالم من زهاء رسوم المقابر وروعة المقتنيات الأثرية التى تزخر بها أغلب متاحف العالم وكذلك فى تطبيقات متنوعة صناعية وطبية لمواد ابتكرها المصرى القديم ولأول مرة من آلاف السنين ومرود ذلك من تطبيقات حديثة فى عصرنا الحالى.