فى يوم 23 ديسمبر عام 1888، قطع الفنان الهولندى فينسنت فان جوخ، أذنه اليسرى، وكان ذلك أول الإشارات إلى الخطر الذى يعانى منه حتى انتحاره المأساوى بعدها بعام، لا يعرف بالظبط ما كان يعانى منه الفنان من مرض بالتحديد، لكنه بلا شك كان ذا تأثير كبير عليه.
وبتتبع الرسائل الأصلية والوثائق التى تخص الفنان الهولندى وأخيه وأصدقائه وأطبائه، والتى تناولها الموقع الرسمى لمتحف "فان جوخ" على الإنترنت، نجدها تسلط الضوء على حادث قطع الأذن والحياة المضطربة التى كان يعيشها "فان جوخ" فى آواخر أيامه.
وكما يعلم الجميع القصة التقليدية لقطع أذن الفنان، ليهيدها إلى حبيبته إثباتاً لحبه وتأكيداً عليه، لكن دراسات تاريخ الفن الحديثة، غيرت هذه القصة وتعددت الأقاويل حول الدوافع الحقيقية لهذا الفعل، وهو ما نتناوله فى هذا التقرير.
البداية..
وصل فنسنت فان جوخ إلى مدينة آرل جنوب فرنسا فى بداية عام 1888، ورسم بشكل مكثف معالم المدينة وما حولها، وجاءت لوحاته مستوحاة من المناظر الطبيعية جنوب فرنسا، وكان يحلم "فان جوخ" بأن يجتمع الفنانون فى بيته الأصفر، وعندما وصل الرسام بول جوغان فى أكتوبر من نفس العام، ظن "فان جوخ" بأن حلمه قد تحقق أخيراً .
علاقة فان جوخ بالفنان بول جوجان..
قرر الفنان الفرنسى بول جوجان سنة 1888 الذهاب إلى آرلى بجنوب فرنسا، والتقى بـ"فان جوخ" هناك، ولأنه كان فى حالة مادية سيئة، فقد قام "ثيو" شقيق فان جوخ بتمويلهما، ورافق "جوجان" "جوخ" وعملا معا فى تناغم، لكن الوثائق تفيد بأن أمزجة الصديقين وآرائهما كانت مختلفة والعلاقة بينهما تدهورت بعد وصول "جوجان" بوقت قريب.
فى تلك الفترة أصيب "جوجان" بالعديد من نوبات الاكتئاب وحاول الانتحار لكنه فشل، وبعد 8 أسابيع قرر الرحيل مرة أخرى.
أذن فان جوخ المفقودة..
هناك العديد من الآراء وحول قطع أذن فان جوخ، وعلى الرغم من تضارب الآراء حول أسباب هذا الفعل، إلا أنه هناك آراء أكثر احتداماً حول هل قطع "فان جوخ" أذنه بنفسه بالفعل؟ أم أن الفنان بول جوجان هو السبب فى قطعها؟.
ذكرت الوثائق أن المناقشة بين الفنانين حول الفن وصلت فى بعض الأحيان إلى التشابك، و الحدة فى النقاش، فقد كان يعتقد "فان جوخ" أن الفن يجب أن يكون مستلهم الواقع، فى حين يفضل "غوغان" أن يرسم من خياله.
وفى إحدى الليالى، قبل عيد الميلاد، كان لدى الفنانين خلافا شديدا، ويذكر من خلال الوثائق، أن أثناء هذا الخلاف قطع "غوغان" أذن "جوخ"، ولكن لم يعترف الأخير بذلك، حتى يحمى صديقه من المساءلة القانونية، وقد أطلق الكاتب هانس موفمان، الذى ألف كتاب يتناول فيه حياة الفنان الهولندى، على هذا الحدث اسم "الاتفاق الصامت".
أذن واحدة وفنانان..
تعددت الآراء حول هذه الحادثة فهناك من أكد على أن "جوجان" هو الفاعل، وهناك من يقول أن "جوخ" قد قطع أذنه ولكن بسبب "غوغان"، وذلك عندما قرر الأخير الرحيل وترك "جوخ" وحده، فانتابته نوبة جنون، أو نوبة اكتئاب وقام بقطع أذنه، واختلف المؤرخون حول إصابة "جوخ" بأى نوبة هذه الفترة، قائلين أنه لم يعانى من تلك النوبات فى هذه المرحلة من حياته.
وهناك من يقول بأن الخلاف بين الاثنين قد وصل أوجه وحاول "جوجان" قتل "جوخ" وقام بقطع أذنه بشفرة حلاقة أثناء نوم الأخير، لكنه استيقظ وتنبه للأمر ومنع تلك المحاولة، وهناك من قال أن الشجار قد نشب بينهما وقام "جوجان" بقطع الأذن بسيفه عن غير قصد.
لا يُعرف حقاً حقيقة هذا الكلام من عدمه، حيث كانت جميعها تكهنات واجتهادات ظنها المحيطين بالفنانين، ولكن كان وحدهما فقط من يعلما الحقيقة.
رسالة الطبيب إلى ثيو شقيق فان جوخ ..
عندما انتقل "جوخ" إلى المستشفى تمت معالجته، وحاول الطبيب " فيليكس راي" معرفة ما وراء الحادث وأسبابه، وأرسل فى رسالة إلى "ثيو"، والتى تم اكتشافها حديثاً، مرفقة برسومات لأذن فان جوخ المشوهة، ويقول فيها لـ"ثيو"
"لقد تحدثت إلى "فان" وحاولت الحصول عن الدافع الذى جعله يقطع أذنه، وأجاب أنها مسألة شخصية بحتة". فيليكس راي إلى ثيو، 30 ديسمبر 1888.
وهذه الرسالة أكدت أن فينسنت قطع أذنه بأكملها، وقد لفت الطبيب فى رسمه أن الأذن تم قطعها بواسطة شفرة حلاقة كما هو مبين بالخط المنقط."
فان جوخ على حافة الجنون..
عاد فنسنت إلى رشده فى المستشفى، وبعد أسبوعين سمح له بالعودة إلى دياره، ووصف "جوخ" هذه الفترة فى رسائله إلى أخيه بأنه كان يخلط تماما بين الأمور ولا يعرف ماذا كان يفعل أو يقول، وقال أنه بذل قصارى جهده لالتقاط خيوط حياته من جديد. وبعد عودته إلى منزله رسم "جوخ" لوحتين له وهو بالضمادات حول أذنه.
أذن حائرة..
أبسط الأقاويل حول الحادثة، تفيد بأن فان جوخ قطع أذنه بعد أن أصابته نوبة إضطراب نفسى "اكتئاب"، دون البحث وراء أسبابه، حيث كان الفنان فى أواخر أيامه تصيبه نوبات اختلال نفسى و عولج على أثرها فى مصحة نفسية، و كانت هى السبب فى انتحاره.
قيل بأن الفنان الهولندى قد قطع أذنه من أجل عاملة تنظيف الغرف فى أحد بيوت الدعارة فى آرل، كانت قد أصيب بجروح بعد تعرضها لهجوم من كلب شرس.
وقد جمع رأى بين الرأيين السابقين، حيث أفاد بأن فان جوخ قطع أذنه بعد تعرضه لنوبة اكتئاب، ثم أعطاها لعاملة التنظيف، أو بائعة هوى فى بيت الدعارة.
وهناك من ربط بين الخلاف بين الفنان الهولندى و الفنان الفرنسى "غوغان"، و بين الرأى السابق، قائلين أن حدث خلاف بينهما فى خارج المنزل، و قطع "غوغان" أذن جوخ، أو قطع "جوخ" أذنه بنفسه، و مر على ماخور أثناء عودته على المنزل، و أعطى أذنه إلى فتاة هناك، ورحل نازفاً إلى منزله.
أفاد رأى آخر بأن "جوخ" أصابه إنهيار نفسى بعد سفر اخيه "ثيو" و زواجه، و كان "جوخ" يعتمد عليه اعتماد كبير، فقطع أذنه تعبيراً عن رفضه لهذا الزواج و الرحيل من جهة، ومن أجل عودة أخيه مرة أخرى، من جهة ثانية .