أدرج الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، اسم محمد شفيق غربال، ضمن مشروع حكاية شارع الذى يهدف للحفاظ على التراث العمراني والمعماري المتميز.
ولد محمد شفيق غربال بمدينة الإسكندرية في 4 يناير 1894، وتلقى تعليمه الإبتدائي ثم الثانوي بمدرسة رأس التين الثانوية، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة المعلمين العليا؛ لأن ذلك المعهد كان الوحيد في مصر الذي يمكن أن يصله بالدراسات الإنسانية وفي مقدمتها دراسة التاريخ. وكان شفيق غربال شديد الغرام بقراءة التاريخ، حتى إنه قرأ فيما قرأ، وهو لا يزال طالبًا في المدرسة الثانوية كتاب و”فيات الأعيان” لـ”ابن خلكان” كاملاً.
أوفدته وزارة المعارف فى بعثة إلى جامعة “ليفربول” بإنجلترا لدراسة التاريخ، ولم تكن الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 قد انتهت، ورغم ذلك لم يتردد غربال فى السفر بالرغم مما يتهدد سفره من أخطار جراء الحرب. تتلمذ غربال فى إنجلترا على يد نخبة متميزة من أساتذة التاريخ وحصل على الليسانس بمرتبة الشرف الأولى 1919.
عاد غربال إلى مصر واشتغل بالتدريس فى إحدى المدارس الثانوية نحو ثلاث سنوات، ثم أوفد إلى انجلترا والتحق بمدرسة الدراسات التاريخية التابعة لجامعة لندن، وتعرف هناك على المؤرخ الشهير “أرنولد توينبي”، المؤرخ الموسوعي الشهير صاحب موسوعة دراسة للتاريخ study in history ، وتوثقت علاقة التلميذ غربال بالأستاذ توينبي، وسجل غربال رسالته للماجستير تحت إشراف توينبي عام 1924، والتى حملت عنوان “بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي”، وحصل عليها ونشرت فى لندن بالإنجليزية عام 1928، لكنها لم تترجم إلى الآن إلى اللغة العربية.
التدرج الوظيفي:
بعد حصوله على الماجستير عاد غربال إلى مصر، وعين لتدريس التاريخ بمدرسة المعلمين العليا، والتى كان قد درس بها وظل بها إلى أن نقل أستاذًا مساعداً للتاريخ الحديث بكلية الآداب بالجامعة المصرية عام 1929، وكان الأساتذة الأجانب – آنذاك – يحتلون معظم كراسي التدريس بالجامعة، ثم ما لبث أن رقي غربال إلى كرسي أستاذ التاريخ الحديث عام 1936، خلفًا للمؤرخ الإنجليزي “جرانت”، وبذلك أصبح غربال أول مصري يتولى هذا المنصب، ثم انتخب عميداً لكية الآداب 1939.
ثم انتقل للعمل وكيلاً مساعدًا لوزارة المعارف حتى عام 1942، ليعود إلى الجامعة أستاذًا مرة أخرى، ثم عاد غربال مرة أخرى إلى وزارة المعارف ليعمل مستشارًا فنيًا لها، ثم وكيلاً لنفس الوزارة إلى جانب تعيينه أستاذًا غير متفرغ بكلية الآداب عام 1949، ثم انتقل وكيلاً لوزارة الشئون الاجتماعية لفترة قصيرة ثم مديراً لمعهد الدراسات العربية 1954-1961.
مؤلفات غربال:
إلى جانب رسالته عن (بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي) ألف غربال بعض المؤلفات التاريخية التى تعد وبحق علامة فى الكتابة التاريخية فى القرن العشرين وهى كالآتي:
درس شفيق غربال الأصول التاريخية التي كونت تطور مصر في القرن التاسع عشر فكتب بحثه العميق “مصر على مفرق الطرق”، وتشتمل هذه الدراسة على تحقيق مخطوط بعنوان “ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية” كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الروزنامة في مصر العثمانية، وهو عبارة عن أسئلة موجهة من “المسيو إستيف” مدير مالية مصر خلال الحملة الفرنسية إلى حسين أفندي حول أحوال مصر الإدارية والمالية وإجابات حسين أفندي عليها.
وقدم الأستاذ غربال في هذا البحث نموذجًا لنشر النصوص التاريخية نشرًا علميًا محققًا، وفتح به ميدان البحث في تاريخ مصر العثمانية.
كما نشر بحثه عن “الجنرال يعقوب والفارس لسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801م”. وتناول فيه فكرة استقلال مصر عن تركيا على أساس التفاوض في العواصم الأوروبية كما تخيلها يعقوب حنا ولسكاريس بعد جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد بني هذا البحث على المصادر العربية والغربية. وهذا البحث كان أصلا محاضرات عامة ألقاها غربال في الجمعية الجغرافية.
ونشر كذلك كتابه عن “محمد علي الكبير” والكتاب عرضًا رائعًا لتاريخ مصر فى عهد محمد علي والإنجازات التى حققها داخليًا وخارجيًا. وكتب فى عام 1952 دراسة قيمة عن “تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية” وتعرض فيه للعلاقات المصرية البريطانية منذ الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882م إلى معاهدة 1936 المصرية البريطانية، وتكمن أهمية الكتاب ليس فقط فى كون مؤلفه شفيق غربال ولكن لكونه معاصرًا لفترة كبيرة من تلك المرحلة.
ألف كتاباً بعنوان “منهاج مفصل لدراسة العوامل التاريخية فى بناء الأمة العربية على ما هى عليه اليوم”. ويعد كتاب “تكوين مصر عبر العصور” رؤية بانورامية شاملة لتاريخ مصر عبر العصور من منظور فلسفي، ولعله تأثر فيه بأسلوب أستاذه أرنولد توينبي الذى لم يقف عند عصر معين أو بلد معين أو حضارة معينة، وإنما درس كل الحضارات، وأهمية هذه الرؤية تكمن فى الحيز الصغير الذى صاغها فيه والكتاب فى الأصل عشرة أحاديث القاهرة غربال باللغة الإنجليزية من الإذاعة المصرية للعالم الخارجي، وقد ترجمت بمعاونة “محمد رفعت” إلى العربية وأصدرتها وزارة الإرشاد القومي فى عام 1957، ثم الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990.
ترجم غربال كتاب المدينة الفاضلة إلى اللغة العربية، تمكن غربال بفضل مقدرته العلمية ودقة ملاحظته وقوة تأثيره في طلابه أن تكون له الريادة الفكرية للمدرسة التاريخية المصرية، ووضع لها خطة تقوم على توجيه الاهتمام إلى دراسة التاريخ القومي الحديث، واستحدث دروسًا في تاريخ مصر الحديث السياسي والاقتصادي، وفي تاريخ الشرق الأدنى الحديث، وشجع المتفوقين من طلابه على متابعة الدراسات العليا لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة، وفتح أمامهم آفاق البحث في دور الكتب والوثائق.
وفي أثناء ذلك كان الملك “فؤاد الأول” معنيًا بتاريخ أسرته وخاصة تاريخ محمد علي وأبيه إسماعيل، وأمر بتشكيل لجنة سنة 1925 برئاسة الدكتور “حسن باشا نشأت” لجمع ما في القصر الملكي ودار المحفوظات العمومية بالقلعة والدور الحكومية من وثائق تتعلق بأسرة محمد علي وتصنيفها، وترجمة ما كان منها بالتركية إلى العربية.
واستغل الملك فؤاد علاقته الشخصية مع رؤساء الحكومات في أوروبا واستنسخ تقارير قناصلهم في مصر في القرن التاسع عشر، وأمر بوضع كل تلك الوثائق والتقارير والفرمانات داخل مبنى بقصر عابدين أطلق عليه “دار الوثائق السرية والمحفوظات التاريخية الملكية” بهدف إلى إتاحة الفرصة لعدد من المؤرخين لكتابة تاريخ أسرته، غير أن الملك فؤاد كان قليل الثقة في المؤرخين المصريين وفي مقدرتهم على كتابة تاريخ مصر الحديث، فاستقدم بعض المؤرخين الأجانب بعد أن هيأ لهم كل الإمكانات ووعدهم بالمكافآت السخية، وقام هؤلاء بوضع عدد كبير من المؤلفات التاريخية التي تتناول تاريخ أسرة محمد علي وفق التوجيه الخاص للملك فؤاد.
ونزل شفيق غربال وتلاميذه إلى ميدان الكتابة في تاريخ مصر الحديث مزودًا بذكاء حاد وثقافة واسعة وقدرة فائقة على البحث والتحليل، وتجرد من الهوى، وإخلاص للحقيقة وحدها، وبدأ في توجيه تلاميذه إلى البحث في تاريخ الأمة المصرية والمجتمع المصري، كتاريخ التعليم والصناعة والتجارة والزراعة، ورغَّبهم في دراسة التاريخ العثماني باعتباره مدخلا لدراسة التاريخ المصري الحديث، ووجههم إلى الاهتمام بجمع المادة التاريخية الأصلية من مصادرها الأولى في دور الوثائق بمصر، وبذلك وضع شفيق غربال وتلاميذه الأساس لبناء التاريخ المصري الحديث، ونقل الإشراف على الدراسات التاريخية من يد القصر والأجانب إلى الجامعة.
وقد تتلمذ على يديه خيرة مؤرخي مصر فى العصر الحديث، وعلى رأسهم المؤرخ الكبير “أحمد عزت عبد الكريم” الذى وجهه أستاذه غربال لدراسة تاريخ الزراعة المصرية فى عهد محمد علي.