تمر اليوم ذكرى رحيل الكاتب الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) وكان العقاد يخوض العديد من المعارك الأدبية ويشارك فى الاختلافات الفكرية التى كانت تقودها الصحف والمجلات فى ذلك الوقت، ومن ذلك ما أطلق عليه "آداب الساندويتش".
يقول كتاب "المعارك الأدبية" لـ أنور الجندي
هذه مساجلة هادئة حول الأدب، دور من أدوار تحوله، عندما انتشرت ظاهرة الأدب السريع الصحفى، الذى لا يرعى قواعد النحو ولا أصول اللغة، وهى صيحة تصور مدى الخطر الذى تعرض له الأدب فى هذه الفترة، وقد أثار المناقشة أحمد حسن الزيات واشترك فيها إبراهيم عبد القادر المازنى وعباس محمود العقاد وتوحى هذه المساجلة بالنذر التى قلت بعد الحرب العالمية الثانية حين استفحلت نزعة أدب الساندويتش، وتورط فيها كثير من كبار الكتاب وحملت لواءها صحافة ذات اتجاه واضح.
أدب الساندويتش.. أحمد حسن الزيات نشر في الرسالة 14 يونيو 1937
أريد الأدب الذى تتأدبه ناشئة اليوم، والثقافة الأدبية اليوم لا تختلف فى سرعتها وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهى نتاف من الكتب ولقفات من الصحف وخطفات من الأحاديث ومطالعات فى القهوة أو الترام. يلفظ الكلام فيها النظر الخاطف. كما يلفظ الحب الطائر الفزع ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل أسقطته قبل التمام. وصراخ مزعج فى أدنى هذا السقط ليستهل وهو مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض.
يقول أنصار الساندويتش فى الأدب: إن قواعد اللغة قيود لا توافق حرية العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجارى قراءة السرعة وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج، والحق الصريح أن آكلى السندويتش أعجلتهم محافز العمل ومشاغل الرزق عن النعيم الآمن والجمام الخصب والبيت المطمئن فجعلوا صعلكة المطاعم نظاما وفلسفة.
آثار هذا الموضوع فى ذهنى طائفة من الرسائل النقدية تلقيتها من أقطار
العربية تستنكر بعض ما تظهر المطابع المصرية من لغو الكهول وعبث الشباب وتشدد النكير على بعض الأحاديث الأدبية التى تبثها الإذاعة اللاسلكية. والواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل. فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين وجدت طبقة الأدباء كطبقات الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة لا بالدروس والمعاناة.
وكما تجد من هؤلاء من ينشئ المتجر ثم يكله إلى أجنبى ينظمه ويرتبه تجد فى أولئك من يؤلف الكتاب ثم يدفعه إلى نحوى يعربه ويهذبه.
رد إبراهيم عبد القادر المازني في مجلة الرسالة 21 يونيو 1937.
نفى صديقى الأستاذ الزيات -صاحب الرسالة- على أدباء هذا الجيل الجديد جهلهم بلغتهم وتقصيرهم فى تحصيل آدابها.
وهذا صحيح ... وأحسبنى من الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ. وأنى لمن الكهول فقد جاوزت الأربعين وقاربت الخمسين.
عرفنا القراءة والاطلاع ونحن تلاميذ فى المدارس الثانوية "وبعد أن تحدث المازنى عن جهده فى صرف كل مليم على شراء الكتب" قال: ومن العناء الذى تكلفته أنى اشتريت الأغانى الذى طبعه "الساسي" اشتريته ورقا على عادتى فكنت أراجع الأبيات التى ترد فيه، فى دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى فأصلحها أو أتمم القصيدة، أنسخ ذلك فى ورقة وألصقها فى الكتاب. وكلما فرغت من جزء جلدته وقد أصبح ضعف ما كان، وهذا هو
الكتاب الوحيد الذى بعته بأضعاف ثمنه فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش. فلما بعت مكتبتى عام ١٩١٧ أو ١٩١٨، لا أذكر، ابتاعه منى وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت على بيعه فما أستطيع اليوم أن أصنع الآن ما صنعته قديمًا.
وأنا مع ذلك أقل الثلاثة -العقاد وشكري- اطلاعا وصبرًا على التحصيل، وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظنى دون الحقيقة التى أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف ولكنهما يقضمان قضم الأسود ويهضمان كالنعامة، فليتنى مثلهما.
السندويتش والمائدة: عباس محمود العقاد رد في الرسالة 5 يونيو 1937
أدب السندويتش هو أدب الفاقة والعجلة، وأدب المائدة واليسار والوقار كما سماها الكاتب البليغ الأستاذ الزيات وأصاب فى التسمية لأنها تسمية وتوصيف وتعليل فى وقت واحد.
وقد ختم الأستاذ مقاله سائلا: ليت شعرى إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر -أدباء الكهول- الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد، كيف يكون حال الأدب الرفيع فى مصر؟ يذهبون وبطئان ما يعوضون على رأى الأستاذ أحمد أمين. أم يذهبون وسرعان ما يخلفون على رأى الأستاذ العقاد؟
وفى جواب هذا السؤال أيضًا لست من المتشائمين لأن الجواب يعضه من سر المستقبل، وبعضه من حقائق الماضي.
قبل ربع قرن من الزمان كان أناس غير قليلين يسألون كما يسأل الأستاذ الزيات اليوم ترى من يرفع لواء الأدب بعد أعلامه البارزين فى هذه الآونة! ترى هل ينطوى اللواء بعدهم أو تهيئ له الأيام أكفاء تنشره كما نشروه وتعزه كما أعزوه.
ولم يكن اسم واحد من الأسماء الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الاستاذ الزيات معروفا تلك المعرفة التى تغنى عن إجابة السؤال. وربما كانوا مجهولين كل الجهل فى غير مجال الأصحاب أو مجال المتطلعين المتسمعين إلى أبعد الأصداء.
فإذا سألنا فى معرفة الجيلين مثل هذا السؤال ورأينا البوادر تملى علينا مثل ذلك من الجواب. فليس من اللازم أن تصدق البوادر وأن ينقضى خمس وعشرون سنة أخرى دون أن يخلف السابقين عوض من اللاحقين.
وإنا لنذكر اليوم الستة أو السبعة القائمين بأمانة الأدب وننسى الستين أو السبعين الذين كانوا يهزلون. كما يهزل البعض الناشئين فى أيامنا.
ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء الساندويتش بيننا. نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم.
ولكنهم كانوا فى أيامهم يحجبون ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء.
وفى العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب الساندويتش أو أدب الفاقة والعجلة ... ثم قال: تلك النوازع من بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية خليقة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة وتنحى على أدب اليسار والوقار. ولكنا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوزاع فى نصرة الأدب المبذول وخذلان الأدب الكريم العزيز.
أما فى مصر؛ فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء. وكل ما تملك من عزاء أن الجد والهزل فى هذا الباب يتساويان فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده.
أما عندنا فحين ظهر بيننا من ينعتون أنفسهم بمدرسة الشباب لم يكن معهم شيء جديد، ولا دليل على الحداثة غير شهادة الميلاد، وراحوا فى دعوتهم يميعون تميع الذى يربت على عطفيه ويتحبب إلى نفسه ويفرط فى تدليل سنة كأنه يتقدم فى سوق الرقيق لا فى ميدان الفكر وحلبة الصراع.