سره الباتع.. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، بعد مرور 65 عامًا على صدورها تحولت إلى مسلسل تليفزيونى ضمن مسلسلات رمضان 2023، للمخرج الكبير خالد يوسف، وتزامنًا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "انفراد" قصة "سره الباتع" التى نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".
قصة سره الباتع.. الحلقة الثانية
وتعودتُ أن أرثِى لأهل بلدنا هؤلاء، كنتُ قد زرتُ السلطان، ورأيتُ مقامَه عن قُرْب، ولم أحسَّ برهبة ما، ولا اقْشَعَرَّ جسدى أو وقَفَ شعري، أو ظهرتْ لى كرامةٌ من كراماته، أربعة جدران قديمة تكاد تنهار، ماذا فيها حتى يستقرَّ صاحبها فى أعماق صدورهم؟! وحتى يتحدَّثوا عنه كما لو كان كائنًا حيًّا ضخمًا يَحْيَا فى مكان م؟! ماذا فيه حتى يتحدَّثوا عنه بلا تكليف هكذا كما يتحدث الجار إلى الجار؟! وكنتُ أعرف خطورة هذا الحديث، فالفلاحون لا يرفعون الكلفة إلَّا بصعوبة شديدة، وإذا خاطبوك بلا ألقاب، وتحدثوا إليك كما يتحدث الجار إلى الجار كان معنى هذا أن احترامَهم لك يرتفع إلى مرتبة التقديس.
والحقيقة بدأتْ تنتابنى الغَيْرة من السلطان حامد، بدأتُ أحسُدُه على تلك المكانة التى يحتلُّها فى قلوب الناس، مع أنَّه لم يكن يملك لهم حولًا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبَّانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!
وقلتُ لنفسى ذات يوم: ربما أكون مخطئًا، وربما هناك شيء داخل المقام هو السبب فى تلك المكانة، ولم أكن — من شدة استخفافى بأمر السلطان — قد اهتممتُ بإلْقاء نظرة على الداخل من خلال النافذة حين كنتُ أوقِدُ الشمع، وأنَّبتُ نفسى كثيرًا لأنى لم أفعل، وقرَّرتُ أن أذهب وأرى المقام من الداخل، وحين خطرتْ لى تلك الفكرة لم أتحمَّس لتنفيذها فى الحال، فلم تكن حكاية السلطان حامد كلها تهمُّنى إلى تلك الدرجة، كانت مجرد أفكار تعنُّ لى إذا جاءتْ سيرته، وتشغلنى قليلًا ثم تمضي، وأعود إلى ما كنتُ فيه.
غير أننى فى صباح يوم الجمعة سمعتُ امرأةً ماشية فى الشارع تندُب حظَّها، وتكاد تولول وهى تقصُّ لكلِّ مَن تستوقِفُها من النساء قصة ابنها المريض، وتختم قصتها كل مرة بدستة شمع للسلطان إن هو طاب، وكدتُ أخرج لها وألْعَنُها، وأُفْهِمها أنَّ سلطانَها حامد هذا لا علاقة له بمرض ابنها، ولا بركة فيه، ولا يملك حتى أن يمنع البلى عن مقامه، ولكننى لم أفعل، بل سألتُ نفسى بصراحة لماذا يُضايِقنى شيء كهذا؟! وما الضرر فى أن تنذر له نذرًا؟! هل سيَمْنَعُ نذرُها الشفاءَ عن ابنها إن كان سيشفى؟! وأدركتُ أن حماسى كان فقط لأنها ذكرتِ اسم السلطان حامد، ولم تذكر اسمى مثلًا، حماسى كان مبعثه هو تلك المكانة الهائلة التى كنتُ يومًا فيومًا أحسُّ بالسلطان حامد يحتلُّها فى قلوب أهل بلدنا، كنتُ أخاف على نفسى منها، وأخاف أن يأتى اليوم الذى أؤمن أنا الآخَر به وأقدِّسه دون أن أعرف سبب الإيمان به وتقديسه.
وتأكيدًا لاستخفافى به قررتُ أن أذهب فى الحال، وأرى مقامه من الداخل، وأرى السِّرَّ المزعوم، وأشبع بعد هذه سخرية من السلطان وأهل بلدنا على حدٍّ سواء.
ولكن، لا أدرى ماذا حدث، فحين أصبحتُ قريبًا من المقام، ورأيتُ أنهار الشمع المتجمِّد وبحيراته، أحسستُ أنى مُقْدِمٌ على شيء حرام، وكأننى سأعبث بشيء يخص أهل بلدنا أجمعين وهم غائبون، إحساس اقشعرَّ له جسدى ولم أستطع أن أتغلَّبَ عليه، وكأنَّك فى اجتماع عام حافِل وتهمُّ أن تمزِّق علم المجتمِعين، وعلى هذا وقفتُ فى مكانى متردِّدًا وقد أحسستُ لأول مرة أنى فى سبيلى إلى القيام بعمل غير مشروع، وتلفَّتُّ حولى مرارًا مع أنى كنتُ متأكِّدًا من خلوِّ المكان وأنَّ أحدًا لا يفكِّر فى المجيء إليه خاصة فى الصباح.
وخفت!
فقد أدركتُ لحظتَها فقط أن السلطان حامد هذا مارد كبير، والبركة فى أهل بلدنا الذين جعلوه هذا المارد الكبير، فمع أنى كنتُ واقفًا فى مكانى لا أستطيع الاقتراب من النافذة إلَّا أنَّنى لم أكن أتصوَّر أن المسألة ممكن أن تبلغ هذا الحد، وأنَّنى فعلًا لا أجرؤ على الدنوِّ، وربما الخوف هو الذى دفعنى إلى النظر إلى مكان السلطان حامد من جديد، كان كل شيء كما هو فى المرة السابقة، الحجرة البالية القِدَم، والجدران البارزة الأحجار بغير طلاء، ولا شيء بالمرة يُخِيف، وكل ما أراه يدفع إلى الاستخفاف، وتقدَّمتُ من النافذة متلصِّصًا، كانتْ أعلى من قامتي، وكان على لأرى ما فى الداخل أن أتشبَّثَ بحديدها وأرفع نفسي.
وأمسكتُ الحديد، كان ناعِمًا زلقًا من آثار الشمع المتجمِّد، ومرة واحدة رفعتُ نفسى ثم فى الحال هبطتُ وقلبى يدقُّ، لم أكن قد رأيتُ شيئًا غير ظلام فى ظلام، ومع هذا خفتُ، فالظلام فى النهار وفى داخل السلطان حامد شيء يخيف.
وكنتُ لا أزال أمسك بالحديد فى انتظار أن أجمع أنفاسى وألْقِى نظرةً أخرى، ولم يكن لدى أية فكرة عمَّا يمكن أن أجِدَه فى الداخل، ربما المقام خالٍ، ربما لا شيء غير الظلام.
وبقوة رفعتُ نفسى رفعةً عالية ودُرْتُ بعينى دورات سريعة مذعورة، ووقف شعرى من الرُّعْب، ومن كثرة رعبى لم أستطِعِ الهبوط وتجمَّدَتْ يداى على حديد النافذة بينما أغلَقْتُ عينى عن أن تَرَيَا، ورحتُ أصرخ فى فزع، وتركتُ نفسى أسقط على الأرض وأنا ألهثُ وأكاد أموت.
لقد رأيتُ السلطان حامد نفسه فى الداخل، كان ضخمًا جدًّا أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدًّا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهى بكتلة خضراء كبيرة تلمع فى الظلام، كان السلطان باركًا فى الداخل يتلمَّظ ويكاد يمدُّ رقبته الطويلة ويقضم رأسي.
ظلِلْتُ مُخْفِيًا رأسى فى حجرى وعيناى مغلقتان وأنا لا أستطيع الجرى أو التفكير أو حتى قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وحولى آلاف العفاريت التى لم أؤمن بها قط وخُدَّام الفناجين، وإبليس، وشقيقاتى اللائى تحت الأرض، وكل ما ارتكبتُه من ذنوب وكل ما سخرتُ به من معتقدات.
واعتقدتُ أنى حالًا سأموت، ولكنى عجبتُ حين مرَّ وقتٌ طويل ولم أَمُتْ، ثم ضحكتُ من نفسى لأنى ظننتُ أنى سأموت، ثم فتحتُ عينى ورأيتُ أشجار الكافور العالية والحقول الممتدَّة البعيدة، والناس الرائحين الغادين كنجوم النهار، وكل شيء غير خائف، وكل شيء يسخر منى ومن خوفي.
والشيء الذى لم أكن أتصوَّر مطلقًا أن يحدث، وجدتُ نفسى أفكِّر فيه، لماذا لا أُلْقِى على المقام نظرة أخرى؟!
تطلعتُ إلى النافذة وتردَّدتُ، ولم ألبَثْ أن وجدتُ دافعًا أقوى منِّى يدفعنى للإمساك بحديدها من جديد، ربما الهلع، وربما حب الاستطلاع، وربما الاستخفاف بأمر السلطان، كنَّا جيلًا معفرتًا، كما يقول عنَّا آباؤنا وأجدادنا، والمسائل الغامضة مثل العفاريت وخلافها مسائل تدور على ألسنتنا فقط، ونتذكَّرها ساعة الغرق، ولكنَّا لا نؤمن بها فى أعماق قلوبنا، وكان آباؤنا يقولون عنَّا هذا؛ لأننا لم نكن نخاف مما يخافونه، وحتى إذا خِفْنا كان خوفنا يدفعنا إلى السخرية بالشيء الذى نخاف منه، كنَّا جيلًا معفرتًا كفَّ عن لعب الكرة «العميو» بيده، وأصبح يلعب الكرة بقدَمِه، ويمضى فوق قضبان السكة الحديد المحرَّمة دون خوفٍ أن يَظهَر له القطار فجأة ويدهمه، وحتى إذا ظهر له القطار، كان فقط ينتحى جانبًا وقد جهز له فى يده زلطة، يقذفه بها إذا مرَّ، ثم يعود يجرى فوق القضبان.