كنت فى الربعة، عندما مات أبي، تاهت ملامح أبى فى مخيلتي، فى زحمة الأيام، حاولت أن أتذكره، لكننى فشلت، لم أذكر منه شيئا، انطمست كل معالم وجهى القديم، صورته المعلقة فوق الحائط، لم تساعدنى فى أن أتذكر، كان غريباً عني، رغم الشبه الكبير بينى وبينه، كلما نظرت فى المرآة.
قالت لى جدتي: إن أبى عندما كان يعود فى المساء، يحملنى بين يديه، يشترى لى الحلوى والأمل، كنتُ حلمه فى البقاء، كان يشعر بأنه سوف يرحل، وأن العطاء قليل، والزمن قصير، والمساءات الباقيات محدودة، كان الموت يترصد، يتربص خلف القلاع، يريد الفرصة لينقض، كان أبى يحاول الفرار، لكن فى نهاية الأمر أصابه بين الأمواج العاتية، كان شتاء قاصياً، والرياح تعلو، كأشباح تُفزع القلب فى ساعة من ليل، رمت به الأقدار فريسة بعد جوع، لم يترك البحر منه شيئاً، لعنت البحر والرياح والشتاء، بينى وبين نفسي، سألت لماذا أبي؟ لماذا أنتقم البحر منه؟ فأعتصر ضلوعه، وفتت عظامه، ولم يترك منه بقيةً، لنقيم له قبراً نزوره، نقرأ له الفاتحة فى الأعياد، والمواسم الدينية، نحمل الطعام لنفرق على الفقراء، ويقرأ الشيخ ما تيسر من الأيات، تقف أمى عند قبر أبى قليلاً، تقتحمها الذكريات، تبكى بحرقة، تخبره عنى وأختى الصغيرة، والتى تركها فى عامها الأول، تزحف ببطء نحو الحياة، هى الآن فى عامها الثاني، تمشى على قدميها، خطواتها الأولى، تخبره أمى فى صمت، بأنها على العهد، بأن فراشه لم يطأه رجل آخر.