عاد سعد زغلول ورفاقه من المنفى سنة 1921 وقد استقبله المصريون استقبال الأبطال، فاحتشدت الشوارع وخرج الجميع لاستقبال زعيم الوفد، لكن ماذا عن الكواليس التى سبقت عودة سعد.
ويقول كتاب "سعد زغلول زعيم الثورة" للكاتب الكبير عباس محمود العقاد: وصار الوزراء والأحزاب يقدمون طلب الإفراج عن سعد وسائر المنفيين والمعتقلين على كل طلب آخر فى البرامج الوزارية والحزبية، شعرت الحكومة البريطانية بأن نجاح كل سياسة فى مصر مستحيل مع بقاء هذه الحال أو بقاء سعد فى منفاه، وشعرت قبلها - أو بإيعاز منها - صحف الأحرار والعمال وبعض صحف المحافظين بخَطَل السياسة التي سار عليها اللورد اللنبي، فأنحت باللائمة عليه، وأجمعت كلها على وجوب النظر من جديد في عواقب تلك السياسة الخرقاء.
ومن الأسباب التى دعت إلى الإفراج عن سعد تلك القضية التى رفعها وكيل سعد في إنجلترا طالبًا الحكم فيها ببطلان أمر اعتقاله؛ لأنه سُجن بغير محاكمة ولا تهمه معروفة.
نعم! إنَّ الحكم من المجلس الأعلى قد صدر برفض هذه الدعوى، لكنه لم يصدر إلا بعد جهد شديد من النائب العام السير دجلاس هوج "اللورد هليشام" لإقناع الأعضاء باجتناب هذه السابقة الخطيرة في معاملة الثائرين على الإمبراطورية، ويغلب على الظن أنَّ أعضاء المحكمة كانوا يفهمون بالإيحاء أنَّ الإفراج حاصل عما قريب، فلا ضرورة لتسجيل المبدأ الخطير من أجل تحصيل الحاصل. وقد نمى إلى بعض المطلعين أنَّ الوزارة البريطانية قررت الإفراج في أول فبراير وإرجاءه إلى أن ينتهيَ الفصل في القضية، وقد انتهى في التاسع من شهر مارس، وليس معنى ذلك أنَّ القضية لم تفعل فعلها في تقرير الإفراج، بل معناه أنَّ الوزارة اهتمت بها، واهتمت في الوقت نفسه بحسن التخلص منها ومن مثيلاتها؛ لئلا يقال إنَّ الحكم هو الذي أكرهها على اتخاذ ذلك القرار.
وربما كان أهم الأسباب جميعًا - إلى جانب سبب الصحة - تلك الحركة التي أحسن توجيهها الدكتور حامد محمود بين فريق كبير من نواب الأحرار والعمال بلغت عدتهم تسعة وتسعين؛ فقد كثر الكلام في الدوائر البرلمانية عن فشل السياسة الإنجليزية المصرية، وعن وصمة العار التي تصم الدولة البريطانية باعتقالها الشيخ العظيم وتعريضه للموت في منفاه، فترددوا على الوزارة سائلين ملحين في وجوب الإفراج، وأجمعوا آخر الأمر على كتابة عريضتهم المشهورة، فقدموها في التاسع والعشرين من شهر مارس وأُذيع الأمر بالإفراج بعدها بيومين.
يضاف إلى ذلك أنَّ قانون التضمينات سيصدر، وأنَّ الأحكام العسكرية ستُلغى، وأنَّ الانتخابات ستُجرى، ولا بدَّ أن تسفر عن انتخاب نواب مجمعين على المطالبة بعودة سعد إلى بلاده؛ لأن خصومه وأصدقاءه كانوا يعلمون علم اليقين أنَّ رضاء الشعب بغير هذه الوسيلة من وراء كل رجاء، ولا معنى لإلغاء الأحكام العسكرية في مصر وإجراء الانتخابات فيها وزعيم النواب المنظورين خاضع للأحكام العسكرية في منفاه.
ولقد كان الرجاء قويًّا في تحضير الانتخابات على الوجه الذي يهواه اللورد اللنبي أيام ثروت وأشياعه، ولكنْ أيُّ رجاء هناك في هذه النتيجة بعد سقوط ثروت وإحجام عدلي عن تأليف الوزارة، وصعوبة المضي في هذه السياسة من جميع الأنحاء؟!
فالإفراج عن سعد كان كجميع الحوادث التاريخية متعدد الأسباب غير محصور في سبب واحد، وإنما كانت المسألة مسألة الزمن، أو الانتظار حتى تتفق جميع هذه الأسباب.
غادر سعد جبل طارق بعد خمسة أيام من إعلان الإفراج عنه إلى طولون، ومعه السيدة الجليلة صفية زغلول، وكانت قد وافته في منفاه لما اشتد عناؤه من الوحدة مع انحراف الصحة والحاجة إلى حسن الرعاية.
فتلقاه الطلبة المصريون فى عرض البحر بالترحيب والتهليل، ومنهم مندوبون عن زملائهم فى جامعات فرنسا وسويسرا حضروا خصوصًا لتحيته وتجديد عهده.
وخطبوا يذكرون مآثره، وخطب فيهم راجيًا أن ينسَوه فى تلك اللحظة ليفكروا فى الذين لا يزالون يرسفون في قيود السجن والاعتقال، ثم قال: "إنَّ مصدر قوتي هو أني لست إلا معبرًا عن شعور الأمة وآرائها معربًا عن تصميمها على أن تعيش حرة مستقلة".
ثم توالى الإفراج عن المعتقلين في مصر؛ فأُفرج أولًا عن أعضاء الوفد الذين كانوا معتقلين بقصر النيل، ثم أُفرج في الرابع عشر من شهر مايو عن المعتقلين في صحراء ألماظة "المخزن"، وهم حمد الباسل باشا وأصحابه الذين كتبوا منشور المقاطعة والاستبسال في رد سعد إلى وطنه، ثم أُفرج في آخر مايو عن المنفيين إلى سيشل، ثم سُمح بزيارة بيت الأمة بعد إغلاقه برهة مع منع الاجتماعات فيه، ثم نشرت الحكومة المصرية بلاغًا في العشرين من شهر يوليو صرَّحت فيه "بإمكان عودة جميع المبعدين" ومنهم سعد باشا؛ لأنه كان إلى ما قبل صدور قانون التضمينات ممنوعًا من العودة إلى بلاده.
وفى الثالث عشر من سبتمبر أبحر سعد من مرسيليا فوصل إلى الإسكندرية في السابع عشر منه، ووصل إلى القاهرة في غدِه، وتكررت مظاهر الحفاوة الكبرى التي قوبل بها في العودة الأولى، وزاد عليها في هذه المرة اشتراك الأجانب في الاستقبال بما كانوا ينثرون عليه من الأزهار والرياحين بأيدي السيدات والأطفال حتى امتلأت بها السيارة.
وقد انحلت مشكلة الاستقبالات الرسمية هذه المرة؛ لأن القصر الملكي لم يعد مقاطعًا الوفد كما كان في المرة الأولى، ودارُ المندوب البريطاني لم تعد دار الحماية بعد إلغائها، فزار سعد القصر وزار دار المندوب.
ونشطت مساعي التوفيق بين القصر وسعد على يدَي توفيق نسيم ومحمد سعيد وأحمد مظلوم، فتمت المقابلة الأولى بين الملك فؤاد وسعد في تاسع نوفمبر بعد ظهور نتيجة الانتخابات الثلاثينية، وتحقق النجاح للوفديين فيها، وكان المظنون يومئذٍ أنَّ سعدًا لا يشكل الوزارة، وأنه قد يعهد بها إلى توفيق نسيم أو أحمد مظلوم على الأرجح، أو إلى محمد سعيد على احتمال بعيد، وكان هو لا يبوح بنياته لمن يسألونه في هذا الموضوع، وإلى ذلك أشارت صحيفة التيمس في بعض مقالاتها، فزعمت أنَّ سعدًا لا يُقدِم على تأليف الوزارة؛ لأنها «مقبرة الشهرة» … ولا يبعد أن يكون هذا الاحتمال ملحوظًا في مساعي التوفيق.