تعد رواية عمار علي حسن "جبل الطير" بمثابة ملحمة البحث عن حق اليقين عبر جدل فكري عميق، وهي تصالح بين حاضر الأزمنة وغابرها بين الواقع والأسطورة بين العقل والقلب بين العلم والمعرفة أو حينما تتجلى عبقرية الإبداع المفارق والمسئول في كتابة رواية مصريتها خالصة لا تدين للمثاقفة ونماذجها بشيء ، رغم استيعابها لما يسمى بكتابات عبر النوعية وهضمها لكل الفنون ، وأن العالمية إنما تنطلق من المحلية شديدة الخصوصية .
ولتبدأ الملحمة بمشهد للشخصية الأساسية وبطل الرواية الشيخ (سمحان) ، فحينما يطل من نافذة غرفته ، يفجؤه اختفاء "جبل الطير" والذي سميت القرية باسمه ، هذا الموجود الراسخ ، الذي يرتشق بالأرض كي ما يحفظ لها الثبات من ناحية ، وسكن لكل الطيور المحلية والمهاجرة وخاصة أسراب "البوقير" ذات الريش الأبيض الناصع والنقاط السوداء الموزعة بعناية ، وسنكتشف مع مرور الوقت كم أن هذا الوصف ليس مجانياًً ، فالسرد في هيلولته يلقي ببعض شذراته المضيئة أمامنا في الطريق ، شذرات فكرية سهلة الطرح ، لكنها عميقة الأثر ، فالسرد ليس استهلاكيا .. مجانياًً ، لكنه موضوع بعناية فائقة لرصد الاختلافات والمتناقضات التي تخدم علي رؤية كلية تسعى "الرواية" لكشف فضاءاتها الرحيبة فعلي جرار التورية أو الاستعارة التمثيلية ، ندرك أن اختفاء "جبل الطير" من أمام عيني "سمحان" ليس هو بالضبط هكذا علي المستوى الواقعي ، لكنه يرتحل عبر "التخييل" إلي اختفاء مجازي من وعي لشخصية بالضبط كما تختفي – فجأة في دواخلنا – حقائق مهولة لها رسوخ الجبال ، ولندرك أن هذا الاختفاء يسمح بتحول هذه الزمكانية ذات الطبيعة الصخرية الجافة إلي أخرى لها من الخضرة المساحات السرمدية .
وهل "البوقير" الأبيض المبرقش بالنقاط السوداء وعلاقته الحميمة بالجبل ، هل هي فقط مجرد طيور ، أم أنها تلك الأفكار ، وهذا الجدل الرائح الغادي وعلاقته – في ذات الوقت – بهذا الثابت المتجذر ، السرد هنا محمل كأجنحة الفراشات والنحل واليعاسيب حبوب اللقاح العفوية / الضرورية ، تنتقل من هنا إلي هناك لإحداث هذا الإخصاب الفكري المستتر ، عبر حقول زمكانية أخرى متشعبة دلالاتها تتسربل كالشرايين والأوردة في جسد الرواية .
شيء بديهي أن يختار الكاتب اللحظة التي يبدأ منها العمل ، والكاتب هنا يختار ذروة الأزمة الفكرية / الفلسفية / الوجودية ، ليبدأ منها ، فحينما تمضي في قراءة الرواية تدرك أن اختفاء الجبل في وعي الشخصية ليس سببا لكنه نتيجة لأسباب كثيرة ومتشعبة ، ربما كان أولها استعداده النفسي للعزلة والتأمل لسبر أغوار هذا الموجود الذي هو فيه مجرد كما يقول الكيميائيون .. مجرد( إلكترون متأين) متأهب للتفاعل عبر المدارات .
ثانيها : حدسه الداخلي بأنه لابد وملاق نفس مصير عمه (رشيد) هذا للشاب الذي مات صغيرا ، عندما تكشفت له بعض الأشياء ، فلم يتحمل ، كان يدرك حكمة "من يعرف أكثر يحزن أكثر " أو كما يقول أحد الواصلين : "العارف إن تكلم هلك ، والعاشق إذا سكت هلك " .
عمه "رشيد" كان بالنسبة له هو بذرة المعرفة الأولي ولصدق كتبه – الأثر البالغ- في تحريكه وقلقلة بذرة السؤال داخله .
في هذا القسم الأول من الرواية يتجلى لنا "المعمار الروائي " ولتتشكل أمامنا :
الزمكانية الأولي : (طهنا الجبل) وأثرها في نمو وتطور وانتقال (الشخصية) الأساسية (سمحان) من منطقة الشاهد أو المتفرج ،الواقف في منتصف المسافة ما بين مقبرتين ، مقبرة الفراعنة الأجداد الأول ، والمقبرة الحديثة حيث توافد الموتى من أهل الناحية ، وهو كحارس جديد يصبح فجأة بمنتصف المسافة بين الرهبة والخوف وهذا الشغف لمعرفة أصول ما حوله ، علاقته بالحاضر الأني وبين ما يمثله المكان من أزمنة سحيقة عمرها آلاف السنين ، ها هو في (طهنا الجبل) الواقعة بيوتهم عند سفح الجبل وحتى أول الطريق الواصل بين (سمالوط ) و(المنيا) شرق النيل .
هنا في حضرة المقبرة وما تمثله من تجمع لأزمان غابرة ، هنا يأتيه النداء الأول للاقتراب فيطيع النداء كما تعود ، فيطيع ، ولا يجد أي مسافة للتراجع ، فقط ارتبط النداء عنده دائما بالخير الذي سيأتيه ، هنا في (طهنا الجبل) كان النداء الأول لدخوله عالم الحضرة حيث المعاني والأفكار تتجسد في (شيخ الحضرة والمريدين ) الذين ساعة الذروة وانبلاج الرؤية ، تتوه ملامحهم وسط هالات من نور ، فينسحب عندئذ الفيزيقي / الخارجي / المسيج للوجود الإنساني ، كي ما يسمح لهذا الفيض النوراني للعبور من الداخل ليعلن هيمنته علي الخارج .
الزمكانية الثانية .. أو (العتبة الثانية ) :
وتمثلت في دير العذراء .. أو كنيسة العذراء في (جبل الكهف) أو الكنيسة التي نحتت في باطن الجبل ، والوصول إليها لابد للصاعد أن يصعد مائة وست وستون درجة .
هنا تجسد الحلم ، ومقابلة (جميلة) التي كانت تأتيه في الأحلام ، والتي صارت زوجته بعد ذلك ورفيقة الدرب ، هنا في رحاب الدير يلتقي بمعلمه (عبد العاطي) الحارس الأول الذي تسلم منه (سمحان) العمل كحارس للمقبرة في (طهنا الجبل) والذي لم يره مرة واحدة إلا حين انتقاله للعمل في دير العذراء .
وعلي حد قوله أنه يأتي إلي الدير كل عام ليشم رائحة ثياب العذراء التي غسلتها في نفس المكان من غابر الأزمنة ، لينتقل المكان من محل الواقع لمتون الأسطورة ، وليتخلق حقل دلالي آخر يتحلق هذه الخطوط المتوازية داخل (سمحان) ذات الأبعاد الاجتماعية والفكرية والدينية ، ولتشد خطوط وعي (سمحان) لتزيد من مساحته من ناحية ، وليتصاعد التوتر داخل دراما البناء من ناحية أخرى .
وإذا كان سمحان في (طهنا الجبل) قد وارب الباب أمامه ، ففي (دير العذراء) انفتح بما يكفي لمرور روحه ، هذا علي حد قول معلمه وشيخه (عبد العاطي) .
الزمكانية الثالثة .. (بهنسا) حيث دخوله في عمق الأشياء ، وجلوسه في بيته الذي لن يبرحه (علي حد قول شيخه أيضا) .
الزمكانية الرابعة .. (المنيا) وانتقاله للعمل في هيئة الآثار ، وانفتاح المشهد عن تصاعد أخر في دراما النص ، وهو صراعه مع السلفيين ، الذين يصرون علي التدخل في حياته ، ومحاولاتهم اليائسة والبائسة في التفريق بينه وزوجته (جميلة) بحجة إنها مسيحية ، ولم يدخروا وسعاًً في ممارسة رذالتهم ، باليد أو باللسان وإطلاق الشائعات المغرضة من حوله لتسميم حياته ، وكيف أنه بإيمانه العميق ينتصر في النهاية ، وتشل الأيادي والأقدام التي تسعى لإيذائه .
الزمكانية الخامسة .. أو العتبة الأولي .. الأخيرة .. عود مع بدء .
(حي أبو هلال) وعودته الأخيرة إلي بيته حيث أمه التي تعيش وحيدة بعد موت زوجها (عبد الباطن) ، ولتذوب تدريجيا مخاوفه في تقبل أمه لزوجته (جميلة ) المسيحية ، فقد صارت جميلة للأم الخليلة والبنت التي تمنت يوما أن تنجب .
وها هو يري الجبل من جديد ، وليترك هذا العمل الحكومي ، فقد آن له أن ينعم بحريته ورؤية طيور (البوقير) ثانية ، ذات الريش ناصع البياض وهذه النقاط السوداء الموزعة في فضاء الأبيض بعناية ، وهذه المناقير الطويلة بلون سن الفيل ، والأهداب المتدلية بانسياب حول أعناقها ، ها هي تحط فوق الجبل ، وتغطيه بكثرة أسرابها ، ها هي تنقر الأحجار ملتقطة حبات من ملح الكالسيوم ، وتطير تاركة خلفها غرابيل متجاورة من الصخر ، أو هو تبادل الأدوار بين مفردات الواقع وسحر الخيال .
ها هو يعود لفطرته الأولي ، وليبحث له عن عمل جديد ويختار البحث عن الملح ، وليتناسى مطاردة الآخرين له وهذه الأصوات التي تأتيه أن لملم من هذا المذهب المتروك في كنوز الأوائل ، لكنه إنتوى وقرر ، كان يقول : سأبحث عن الملح ، فالناس يستطيعون الحياة بلا ذهب ، لكنهم لا يستطيعون الحياة بدون ملح ، هل كان يوقن في دواخله أن الأرض تصير مائعة بلا ملح ، وملح هذه الأرض من هؤلاء الطيبين ، الذين أحفاهم الشوق والبحث عن الوصال ، وما هو في حقيقته إلا ذرة ملح وسط هذه التلال الملحية البيضاء ، المخبوة بين تجاعيد الجبل .
*وفي لمحة عبقرية من الكاتب ، حينما توشك الحكاية علي الانتهاء ، فإذا به يصنع (يرسم) فاصلا رائعا من الاستشراق ، والقفز علي الزمن ، ومواجهة المستقبل البعيد ، فها هو يلتقي بحفيده في زمن متقدم ، حفيده الدكتور / عبد العليم محمود سمحان
فقد سمع شيخه عبد العاطي يقول له من وراء السور :
- اذهب إلي حفيدك
- حفيدي !
- نعم
- لكنني تركت زوجتي قبل ساعات وبطنها خاو
- ألم تضاجعها ليلة رحيلك ، رفع وجهه في خجل ، وقال :
- نعم حصل
يقول شيخه عبد العاطي : حبلت بولد ، وسيكبر وينجب من بنت "برهان" ثلاثة بنين وثلاث بنات ، وستقف بعد وقت قصير أمام واحد منهم .
ها هي الرواية تقول أن الحياة لا تكتمل إلا إذا اجتمع الاثنان العقل والقلب ولنتأمل قليلا في دلالة الأسماء ، "سمحان" هل يتصل بالسماحة والتسامح ، وهما شرط من شروط الولاية ، ومنبتهم في الوجدان الذي محله القلب ، و "برهان" وتعني المعطيات والفروض والعمل بخطوات محسوبة لإتمام البرهان والوصول إلي نتائج ومكانهم العقل ، هنا رحلة الكمال بين اقتران العلم بالكرامة .
وليفك سمحان شفرة دهشة حفيده الذي يدرك أنه إنما يتحدث إلي جده الذي رحل منذ زمن بعيد ، يقول "سمحان" الجد للدكتور عبد العليم الحفيد "لا أحد يعود من الموت ، لكن الذي سافر إلي الوراء يمكنه السفر إلي الأمام" .
وأخيرا في مشهد شعري ، يواجه سمحان الموت ، سمحان الإنسان الذي يرعبه افتقاده للأحبة في الدنيا ، لكن ما يخفف عنه أنه سيلاقي أحبته الراحلين .
هنا في هذا الخلاء وحده والمصير ، ولا أحد سوى البقرة والديك ، رفاق الدرب وشهود التجربة ، ها هما يضربان وينقران في الأرض ، فتنخلع الأحجار من مكانها ، فتبين فجوات نائمة بين كتل الحصى والرمل المتماسكة من أيام السيل القديم ، كانت القنافذ قد صنعتها علي مهل بيوتا لها ، وتنفتح الجحور علي بعضها البعض لتصير حفرة واسعة ، ترابها ناعم ، ها هو يواجه مصيره وحده يخلع ملابسه ويصب من القلة علي جسده ، ثم ينزع جزءًا من رايته الخضراء التي كان يغرسها في الصخر أمام مغارته وخلوته ، ليلف بها الكراسة التي تركها "عادل المنسي" المرشد السياحي الذي رحل عن مكانه الأول في (طهنا الجبل) بجوار المقبرة ، وظل سمحان محتفظا بها ، هذه الكراسة بكلامها الملغز والتي كانت رافداًً أساسيا بجانب صندوق كتب عمه "رشيد" ودعامة له أمام سيل الأسئلة ، ها هو يلف الكراسة ، وبالباقي يلف به جسده كفناًً ، مازالت به أثار حروق قديمة ، منذ أن أشعل النار فيها السلفي |أبو حذيفة" انتقاماًً ورغبة حقيقية كانت تتنامى داخل نفسيته المريضة للقضاء نهائيا مع الفطرة والطيبة والمعرفة الحقيقية والوصال المتمثلة في شخص "سمحان" وبينما يغوص جسمه بين ضفاف الرمل في الحفرة الني رفرف الديك وقطف بمنقاره زهوراًً ورياحين ، ويلقيها داخل الحفرة .. القبر .. المرقد الأخير ، ويجيبه الصوت : "كما بدأت تعود " ، ويجوب الصدى ، ويهتز الرمل ، وتتراخى أشواك الصبار والتين والقنافذ ، ويطرق الديك صامتا وفي فمه الكراسة الملفوفة وتمد البقرة خطمها وتحمل العصا بين أسنانها وهي مغمضة العينين ، ينسحبان في هدوء ويتركان للصمت الجليل ويترامى غناء في جوف الصحراء بصوت لا مثيل له لحلاوته وطلاوته ونداوته .
هل أقام الدكتور /عمار سيركه الروائي ، إن جاز التعبير وعلي الرغم من هذا الزخم السردي الهائل ، وهذه المعركة الخفية بين الزمن السردي وزمن الأحداث إلا أن كل شيء كان موظفا بعناية فائقة ، وكل يؤدي دوره بمهارة فائقة ، فلم تختلط في لحظة الأشياء ، والمسافة كانت محفوظة بين ما هو حياتي اجتماعي لـ "سمحان" وبين ما هو فكري وفلسفي يتناميان داخله ، في رحلة بحثه عن "حق اليقين" مروراًً "بعلم اليقين" في أنه يسمع الخبر ، ويقيسه بالنظر ، ومروراًً بـ (عين اليقين) المرحلة التي يشاهد فيها ويعاين بالبصر وصولا إلي (حق اليقين) حيث تذوق طعم المعرفة .
هذا الزخم الروائي (السردي) الذي تجاورت فيه كل مستويات اللغة بتناسق مذهل ، من الواقعي إلي جوار الرومانسي إلي جوار الصوفي إلي جوار الفلسفي والتخييلي ، هذا التناغم ما بين ما هو فصيح معجمي وما هو مثل عامي ودارج ، هذا التجاور بين القرآن والإنجيل ، بين الأحاديث الشريفة وأقوال المسيح ، بين أقوال المتصوفة من أمثال التوحيدي والرومي ولآخرين وبين ما هو شعري مقفي وموزون . بين تعديد النساء علي الموتى ، وبين الأناشيد المركبة من "كتاب الموتى" هذه الحساسية العالية في اللغة وباللغة ، والتي تجعل للسرد مجازاًً بصرياًً يكاد يري بكل تفاصيله .
ولا ننسى هذه الشبكة العبقرية من الأزمنة ، التي كانت عصب العمل الروائي ، من زمن أبدي ، متواصل ، منقطع ، غائب ، نفسي ، متعاقب ...
لقد سارت الرواية في بنائها الروائي قدماًً نحو كشف الشخصية المصرية "سمحان" والتي تعتمد في وجودها علي جزء يسير من العلم وكثير من المعرفة الاستنبطائية في معينها الأول وعلي المعرفة التجريبية في معينها الثاني ، حيث أنها تسير في مشوارها الحياتي بين ثراءين ، ثراء الدلتا والخضرة والنماء ، وثراء المخبوء من كنوز حضارة قديمة راسخة ، ممتدة الأثر .
وأخيرا نقول : إن رواية "جبل الطير" تعد إضافة حقيقية لحركة الرواية العالمية ، بخصوصيتها الشديدة علي المستوى الإنساني ، وعلي المستوى الجمالي : تقنياً ، وسردياً، ولغوياً.