توفى الإمام أحمد بن حنبل فى سنة 241 هجرية، ويعد الإمام من أبرز وأشهر الشخصيات فى التاريخ الإسلامي، صاحب مسند أحمد، وصاحب المذهب الرابع فى المذاهب الإسلامية الشهيرة، فما الذى يقوله التراث الإسلامى عن ورعه وتقواه.
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ بن كثير تحت عنوان "ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله":
روى البيهقي، من طريق المزنى، عن الشافعى أنه قال للرشيد: إن اليمن يحتاج إلى قاض.
فقال له: اختر رجلا نوله إياها.
فقال الشافعى لأحمد بن حنبل - وهو يتردد إليه فى جملة من يأخذ عنه - ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا.
وقال للشافعي: إنى إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد فى الدنيا، فتأمرنى أن ألى القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحى الشافعى منه.
وروى أنه كان لا يصلى خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه، ولا يكلهم أيضا، لأنهم أخذوا جائزة السلطان، ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال: ما هذه العجلة ! كيف خبزتم؟
فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه، فقال: ارفعوا ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح.
قال البيهقي: لأن صالحا أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله.
وقال عبد الله ابنه: مكث أبى بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما يأكل فيها إلا ربع مد سويقا، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه، حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وقد رأيت موقيه دخلا فى حدقتيه.
قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع، وكان أحمد لا يتناول منها شيئا.
قال: وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث، فما بقى منهم أحدا إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى.
وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامى اليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما، فاشتبه أيهما له فقال: أنت فى حل منه، ومن الفكك، وتركه وذهب.
وحكى ابنه عبد الله قال: كنا فى زمن الواثق فى ضيق شديد، فيكتب رجل إلى أبى إن عندى أربعة آلاف درهم ورثتها من أبى وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال: نحن فى كفاية، وجزاك الله عن قصدك خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه. ونفدت نفقة أحمد وهو فى اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال: نحن فى كفاية، ولم يقبلها، وسرقت ثيابه وهو فى اليمن فجلس فى بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ليكتب لهم به، فكتب لهم بالأجر رحمه الله.
وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.
وروى البيهقي: أن أحمد سئل عن التوكل فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الناس.
فقيل له: هل من حجة على هذا؟
قال: نعم ! إن إبراهيم لما رمى به فى النار فى المنجنيق عرض له جبريل فقال: هل لك من حاجة؟
قال: أما إليك فلا.
قال: فسل من لك إليه حاجة.
فقال: أحب الأمرين ألى أحبهما إليه.
وعن أبى جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال: كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا: ادع الله لنا
فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما، ثم سكت فقلنا: زدنا !
فقال: اللهم إنا نسألك بالقدرة التى قلت للسموات والأرض { اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11] .
اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا فى دنيانا، وغنى من فضلك.
قال البيهقي: وفى حكاية أبى الفضل التميمي، عن أحمد وكان يدعو فى السجود: اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق.
وكان يقول: اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد ﷺفداء فاجعلنى فداء لهم.
وقال صالح بن أحمد: كان أبى لا يدع أحدا يستقى له الماء للوضوء، بل كان يلى ذلك بنفسه، فإذا خرج الدلو ملآن قال: الحمد لله.
فقلت: يا أبة ما الفائدة بذلك؟
فقال: يا بنى أما سمعت قول الله عز وجل: { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك: 30] والأخبار عنه فى هذا الباب كثيرة جدا، وقد صنف أحمد فى الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه، والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله.
وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: قال لى أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن ترينى الحارث المحاسبى إذا جاء منزلك؟
فقلت: نعم !
وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إنى أحب أن تحضر الليلة عندى أنت وأصحابك.
فقال: إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب.
فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس فى غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا، بل جاؤوا فجلسوا بين يدى الحارث سكوتا مطرقى الرؤوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكى وهذا يئن وهذا يزعق.
قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكى حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟
فقال: ما رأيت أحدا يتكلم فى الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم.
قال البيهقي: يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهدا، فإنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع.
قلت: بل إنما كره ذلك لأن فى كلامهم من التقشف وشدة السلوك التى لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازى على كتاب الحارث المسمى: بالرعاية، قال: هذا بدعة.
ثم قال للرجل الذى جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثورى والأوزاعى والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة.
وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب.
وقال: الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر.
وقال: الفقر أشرف من الغنى، فإن الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر.
وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئا.
وكان يقول: على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف.
وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب.
وقال إبراهيم: قال رجل لأحمد: هذا العلم تعلمته لله؟
فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلى شيء فجمعته.
وفى رواية أنه قال: أما الله فعزيز، ولكن حبب إلى شيء فجمعته.
وروى البيهقي: أن رجلا جاء إلى الإمام أحمد فقال: إن أمى زمنه مقعده منذ عشرين سنة، وقد بعثتنى إليك لتدعو لها.
فكأنه غضب من ذلك، وقال: نحن أحوج أن تدعو هى لنا من أن ندعو لها.
ثم دعا الله عز وجل لها.
فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب، فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبنى الله العافية.
وروى أن سائلا سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال: هبنى هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوى درهما.
فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال: إنى أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها.\