للشاعر الكبير الراحل نزار قباني رحلة طويلة مع الشعر بدأت منذ نعومة أظافره فقد بدأ مسيرته فى عالم القصيدة والكلمة المقفاة مبكرًا جدًا حتى أنه أصدر أولى دواوينه عام 1944 فى عمر الحادية والعشرين بعنوان "قالت لى السمراء" وتابع بعدها عملية التأليف والنشر التى بلغت خلال نصف قرن 35 ديوانًا أبرزها "الرسم بالكلمات"، وقد قال الدكتور منير العجلانى فى مقدمة الطبعة الأولى من "قالت لى السمراء" التى صدرت فى عام 1944: "لا تقرأ هذا الديوان فما كتب ليقرأ.. و لكنه كتب ليغنى و يشم و يضم وتجد فيه النفس دنيا ملهمة".
يقول نزار قبانى في إحدى قصائد الديوان:
أريدكِ
أعرفُ أني أريد المحال
وأنك فوق ادعاء الخيال
وفوق الحيازةِ.. فوق النوال
وأطيب ما في الطيوبِ
وأجمل ما في الجمال
وقبلك لم أوجدْ
فلما مررت بي
تساءلتُ في نفسي
تُرى كنت من قبلُ؟
وإلى قصائده المغناة وهي كثيرة وهنا نتذكر "ماذا أقول له؟" التى غنتها نجاة ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وفيها يقول:
غدا إذا جاء أعطيه رسائله
ونطعم النار أحلى ما كتبناه
حبيبتى هل أنا حقا حبيبته
وهل أصدق بعد الهجر دعواه
أما انتهت من سنين قصتى معه
ألم تمت فى خيوط الشمس ذكراه
أما كسرنا كؤوس الحب من زمن
فكيف نبكى على كأس كسرناه
رباه أشياؤه الصغرى تعذبنى
فكيف أنجو من الأشياء رباه
هنا جريدته فى الركن مهملة
هنا كتاب كنا قرأناه
على المقاعد بعض من سجائره
وفى الزوايا بقايا من بقاياه.
ولم يترك نزار قبانى نفسه لقصائد الغزل دون غيره بل كتب قصيدة لأمه أيضا قال فيها:
صباح الخير يا حلوه..
صباح الخير يا قديستي الحلوة
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافية
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
وخبأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
وليلكةً دمشقية..
أنا وحدي..
دخان سجائري يضجر
ومني مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ..
تفتش –بعد- عن بيدر
عرفت نساء أوروبا..
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إلي عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر
أيا أمي..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً..
ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة؟
بها أوصيك يا أماه..
تلك الطفلة الطفله
فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي..
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها..
ويطعمها..
ويغمرها برحمته..
.. ومات أبي
ولا زالت تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته..
وتسأل عن جريدته..
وتسأل –حين يأتي الصيف-
عن فيروز عينيه..
لتنثر فوق كفيه..
دنانيراً من الذهب..
سلاماتٌ..
سلاماتٌ..
إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء.. فرحة "ساحة النجمة"
إلى تختي..
إلى كتبي..
إلى أطفال حارتنا..
وحيطانٍ ملأناها..
بفوضى من كتابتنا..
إلى قططٍ كسولاتٍ
تنام على مشارقنا
وليلكةٍ معرشةٍ
على شباك جارتنا
مضى عامان.. يا أمي
ووجه دمشق،
عصفورٌ يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا..
وينقرنا..
برفقٍ من أصابعنا..
مضى عامان يا أمي
وليل دمشق
فل دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها.. تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي..
قد زرعت بداخلنا..
كأن مشاتل التفاح..
تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء، والأحجار
جاءت كلها معنا..
أتى أيلول يا أماه..
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتى أيلول.. أين دمشق؟
أين أبي وعيناه
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه..
وأين رحاب منزلنا الكبير..
وأين نعماه؟
وأين مدارج الشمشير..
تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق، دمشق..
يا شعراً
على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً..
من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته..
وذبنا في محبته
إلى أن في محبتنا قتلناه...