"النضج مكلف... والحرية هى أكبر مسئولية يمكن للمرء أن يتحملها على عاتقه".
كان ذلك آخر ما قاله له أستاذٌ فى الجامعة قبل أن يلتحق بقوارب المغتربين نحو القارة العجوز بحثا عن حلم لم يكتمل وحياةٍ أفضل بقليل من الموت.
كلفه ذلك رمى آخر أحلامه عرض الحائط بعد أن قام برمى ثوبه الأسود والذى من أجله باع والده آخر شاةٍ هزيلة يملكها كى ينتقل هو من إحدى القرى الصغيرة بالشمال نحو العاصمة.
توفى الوالد قبل أن يرى ثمار صبره... توفى داخل غرفته التى تآكل سقفها بعفنٍ أخضر مقيت يشبه القيء وسرير رث ذو دعامات حديدية قد دُهِنت من زمن بعيد بلون ذهبى فاقع وصورة وحيدة معلقة لوحيده.. أخيرا.. وهو يؤدى القَسم بعد سنوات عجاف قضى معضمها فى أروقة كلية الحقوق.
عاد بسرعة إلى وعيه وكأن سهما قد استقر بين عينيه وقد ارتسمت على وجهه المتعب علامات ذهول من هول ما مرَ برأسه للتّو!!
هل سيُجبر هو أيضا على التخلى عن ثوبه الأسود؟
هل سيلفظه وطنه كما لفظ الآلاف من أمثاله من أصحاب الأثواب السوداء والمعاطف البيضاء والمحافظ الجلدية؟
ولمن سيبقى الوطن إذا؟
لديه كل الحرية الآن فى اتخاذ القرار الذى ضل يتبلور فى رأسه كفكرة غاية فى الإغراء منذ أكثر من ستة أشهر...
ولكن أستاذه نسى أن يذكر أنّ الحرية مكلفة أيضا كما نسى هو أن عليه إخلاء الشقة قريبا حيث لن يعود قادرا على تسديد الإيجار.
اللعنة.. نغصت عليه هذه الفكرة المفاجئة ما تبقى من يومه وأفاقت رأسه المخمورة منذ ليلة البارحة.
لا مشكلة.. سيتخذ قراره فور أن ينتهى من احتساء ما تبقى من زجاجته.
لن يكون قرارا سهلا... أو ربما هو كذلك.
كل شىء يبدو سهلا عندما لا تملك ما تخسره سوى حياتك.