كانت الساعة الخامسة والربع تقريبًا بعد ظهر مثل هذا اليوم «22 يوليو 1987»، حين أوقف رسام الكاريكاتير الفلسطينى ناجى العلى سيارته، وترجل حاملاً لوحتين هما آخر ما رسمه، حسب برنامج «لا لكاتم الصوت - اغتيال ناجى العلى»، «الجريمة السياسية - فضائية الجزيرة - 5 أغسطس 2010»، وعبر الشارع فى حى «كلس» بـ«لندن» متوجهًا إلى مكاتب جريدة «القبس الدولية الكويتية»، واقترب منه شاب ذو شعر أسود داكن يتراوح عمره بين 25 و30 عامًا، وراح يلاحقه خطوة خطوة، وأخرج مسدسًا كان يخفيه فى صحيفة يحملها، وأطلق رصاصة على رأس ناجى ولاذ بالفرار، وسقط ناجى ممددًا والدماء تنزف حتى تم نقله إلى المستشفى، وظل فى غيبوبة حتى توفى يوم 29 أغسطس 1987 عن عمر يزيد على الخمسين عامًا بأشهر «مواليد 1 يناير 1937».
يتذكر: «اسمى ناجى العلى، ولدت وين اتولد المسيح عليه السلام، بين طبرية فى الناصرية فى قرية الشجرة بالجليل الشمالى، أخرجونى من هناك بعد عشر سنوات فى عام 1948 إلى مخيم عين الحلوة فى لبنان، أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمرى، لسه العشب والحجر والظل والنور، وأشياء ثابتة، كأنها محفورة فى عيونى حفرا، لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك».
فور شيوع خبر محاولة الاغتيال كان السؤال: «من قتل ناجى؟»، وزادت حدته فور موته، يجيب هو حسبما قال لزوجته وذكرته لبرنامج «الجريمة السياسية»: «اللى بدو يكتب عن فلسطين، واللى بدو يرسم عن فلسطين، لازم يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئى لو على قطع رقبتى».
لم يتنازل عن مساره: «لست مهرجًا، ولست شاعر قبيلة، أننى أطرد عن قلبى مهمة لا تلبث أن تعود، ولكنها تكفى لتمنحنى مبررًا لأن أحيا، أنا متهم بالانحياز، وهى تهمة لا أنفيها، أنا لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم يرزحون تحت نيران الأكاذيب، وأطنان التضليلات، وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون فى مصر بين قبور الموتى، ولمن يقضون لياليهم فى لبنان يشحذون السلاح الذين سيستخرجون به شمس الصباح، ولمن يقرأون كتاب الوطن فى المخيمات».
دفع «ناجى» عمره ثمنًا لتمسكه بكل ما يؤمن به، وحتى الآن مازال القاتل غير معروف، فهناك من يقطع بأنه إسرائيل، غير أن هناك من يتهم الرئيس الفلسطينى السابق ياسر عرفات، وفى مقدمتهم الكاتب والمؤرخ الفلسطينى عبدالقادر ياسين، ويستند هذا الفريق إلى الكاريكاتير الهجائى الذى نشره عن الكاتبة المصرية رشيدة مهران، مؤلفة كتاب «ياسر عرفات الرقم الصعب»، وعضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وصاحبة النفوذ الأكبر فيه. وفى حوار له بمجلة «الأزمنة المعاصرة»، عدد 170، 1986، يقول: «هل تعرفون رشيدة مهران؟، لا تظنوا إنها إحدى الفدائيات، هى سيدة مهمة تركب الطائرة الخاصة برئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وتسكن قصرًا فى تونس، وتهدد وتقرب وتبعد فى المنظمة وهيئاتها، رسمت عن رشيدة مهران، وبعدها انهالت تهديدات وتهانٍ وتعاطف».
لم تترك ريشة «ناجى» الشاعر محمود درويش أيضًا، فرسم عنه كاريكاتيره الشهير: «محمود خيبتنا الأخيرة»، وذلك رفضًا لدعوة «درويش» الاتصال مع اليسار الإسرائيلى، واجتمع كل ذلك ليزيد قناعة الذين يقولون إن «عرفات» بأصابعه الطويلة وقتها هو الذى قرر التخلص من «ناجى»، غير أن هناك من يرفض هذا التوجه، فحسب الكاتب اللبنانى طلال سليمان، مالك ورئيس تحرير «السفير» اللبنانية، وعمل فيها «ناجى»: «ما باعتقد فى فلسطينى يعنى عنده الحد الأدنى من الوعى، عنده الحد الأدنى من الكرامة، كرامة قضيته ممكن يوجه رصاصة لعبقرى اسمه ناجى العلى». أوصى «ناجى» بدفنه فى قريته «الشجرة»، لكن إسرائيل رفضت، ولم يتم دفنه فى مخيم «عين الحلوة» بلبنان، فدفن فى مقابر المسلمين فى «بروكود» ببريطانيا «دفن أمانة»، على أن تسترد يومًا لتعود إلى «الشجرة» التى يربطها بشخصية «حنظلة»، أيقونة رسوماته: «ولد حنظلة فى العاشرة من عمره، وسيظل دائمًا فى العاشرة من عمره، ففى تلك السن غادر فلسطين، وحتى يعود إلى فلسطين سيكون بعد فى العاشرة، ثم يبدأ فى الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء»، وعن تكتيف يديه، يقول: «كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد تطويعًا وتطبيعًا شاملًا، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة فى حلول التسوية الأمريكية فى المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعًا».