وقعت في سنة 247 هجرية حادثة خطيرة هي مقتل الخليفة المتوكل على يد ابنه المنتصر، فما الذي يقوله التراث الإسلامي، وكيف كانت سيرة الخليفة الراحل في الناس؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ بن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين":
في شوال منها: كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه، وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان.
فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به، فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، ويقال: من شعبان من هذه السنة، وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه، ثم ولوا بعده ولده المنتصر.
ترجمة المتوكل على الله
جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أم ولد يقال لها: شجاع، وكانت من سروات النساء سنحا وحزما.
كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين.
وقد روى الخطيب من طريقه، عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي ﷺقال: «من حرم الرفق حرم الخير».
ثم أنشأ المتوكل يقول:
الرفق يمن والأناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق نجاحا
لا خير في حزم بغير رويَّة * والشك وهن إن أردت سراحا
وقال ابن عساكر في تاريخه: وحدث عن أبيه المعتصم، ويحيى بن أكثم القاضي.
وروى عنه: علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي.
وقدم المتوكل دمشق في خلافته، وبنى بها قصرا بأرض داريا.
وقال يوما لبعضهم: إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني.
وقال أحمد بن مروان المالكي: ثنا أحمد بن علي البصري، قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل.
فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا؟
فقال: يا أمير المؤمنين، بلى ! ولكن في بصره سوء.
فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين ! ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله.
قال النبي ﷺ: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.
وروى الخطيب: أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها *
فأعطاه التي في يمينه، وكانت تساوي مائة ألف.
ثم أنشده:
بسرِّ من رأى أمير * تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل خطب * كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان * عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئا * إلا أتت مثله اليسار
قال: فأعطاه التي في يساره أيضا.
قال الخطيب: وقد رويت هذه الأبيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل.
وروى ابن عساكر، عن علي بن الجهم، قال: وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك، ثم أنشأ يقول:
وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا * بنفسي تحطُّ المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من مناها في السريرة جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا
ويا من لملوك بملك يمينه * مطيع له فيما أسرَّ وأظهر
قال: ثم أمر المتوكل عربا فغنت به.
وقال الفتح بن خاقان: دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت: يا أمير المؤمنين ! مالك مفكر؟ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشا، ولا أنعم منك بالا.
قال: بلى ! أطيب مني عيشا رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.
وكان المتوكل محببا إلى رعيته، قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأحمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال: فقلت: المتوكل؟
قال: المتوكل.
قلت: فما فعل بك ربك؟
قال: غفر لي.
قلت: بماذا؟
قال: بقليل من السنة أحييتها.
وروى الخطيب، عن صالح بن أحمد: أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء، وقائلا يقول:
ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في العفو ليس بجائر
وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول:
يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوما فضجَّ له * أهل السموات من مثنى ووحدان
وسوف يأتيكم من بعده فتن * توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه جميع الأنس والجان
قال: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال: ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت: ما فعل بك ربك؟
فقال: غفر لي.
قلت: بماذا؟
قال: بقليل من السنة أحييتها.
قلت: فما تصنع ههنا؟
قال: أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم.
وذكرنا قريبا كيفية مقتله، وأنه قتل في ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من هذه السنة - أعني: سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية وهي الماحوزية.
وصلي عليه يوم الأربعاء، ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وكان أسمر، حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أقرب إلى القصر، والله سبحانه أعلم.