رحل، الكاتب والروائى حمدى أبو جليل، أحد أشهر الكتاب المصريين المعاصرين عن عمر ناهز الـ 56 عاما، رحل فجأة بعدما تم تكريمه فى إحدى الندوات، وقد فاز حمدى أبو جليل بجائزة نجيب محفوظ فى سنة 2008 عن روايته الفاعل.
وجاءت كلمته فيفى جائزة نجيب محفوظ 2008 كالتالي:
شكرا للجائزة واللجنة والجامعة، يا لها من مفاجأة ويا له من فرح.. شكرا لتفهم الانحراف عن الأستاذ فى جائزة الأستاذ، لا ليس الانحراف وإنما العجز.. شكرا لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعنى القوة، يعنى القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود فى جانب منه إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعا النماذج العظيمة السابقة. دون كيخوته ـ الاخوة كرامازوف ـ البحث عن الزمن المفقود ـ الغريب ـ الحرافيش ـ رباعيات الاسكندرية ـ نصف حياة ـ كتاب الضحك والنسيان ـ تاريخ حصار لشبونة، الى آخره عبر تاريخ الكتابة هناك أعمال حالفت الخلود، أعمال تجاوزت الزمن، ولم تؤثر فى حضورها المتجدد المتغيرات الثقافية والحضارية، بل أن مرور الزمن يضاعف حضورها وقيمتها.
ويكشف كوامن تفردها مثل الجواهر بالضبط. تلك الأعمال تدفع الكتابة دائما للتطور وارتياد آفاق جديدة ليس من خلال تجاوزها، ولكن من التسليم باستحالة تجاوزها، فالعجز عن الوفاء لشروطها القاسية، شروطها الجبارة، يؤدى إلى البحث عن مناطق جديدة، دائما أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائى به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها أو تجاوزها يدفعه الى مسارات جديدة تماما بل أحيانا مناقضة لمجراه القديم. العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها فى مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعى بها، ولكن العجز ربما لقسوته يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لإنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز فى نفس الوقت، خطوة تجمع بين الفرح بجدتها ومغايرتها والحسرة من وضوح عجزها. ربما يتضح ذلك أكثر فى المادة، الحاجة أم الاختراع، الحاجة ضعف، الحاجة عجز عن الصبر أو التلاؤم مع أوضاع تعايشت معها الأجيال السابقة دون ألم، من اخترع المروحة مثلا هو ذلك الشخص الذى عجز عن مواصلة التعايش مع الحر مثل كافة الأجيال التى تعاقبت قبله، ومن فكر فى اختراع سيارة أو طائرة هو بالتأكيد ذلك الشخص الكسول الذى تخاذل عن المشى أو السفر على ظهور الماشية مثل الجبابرة السابقين، ومن فكر فى البندقية هو ذلك الجبان الذى ارتعب من مبارزة الفرسان.
هذا لا يعنى مطلقا التقليل من شأن إضافات الكتابات الجديدة، بل هو إشادة بها، البندقية بالطبع أكثر فتكا من السيف، وبدون جهود ذلك الشخص الذى عجز عن مواجهة الحر لظلت الإنسانية تصطلى بناره للأبد، وبدون الروائى الذى عجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة لتوقفت الكتابة الروائية عند سرفانتس ورابيليه. ربما التصالح مع العجز هو الذى يجعلنى أنظر بنوع من الحسد والحسرة إلى أولئك الكتاب الذين يخططون لإنتاج كتابة متجاوزة ويطمحون لارتياد مناطق جديدة، هؤلاء أقوياء حقا على الأقل بالنسبة لي، فمشكلتى التى ربما تدفعنى للتوقف نهائيا عن الكتابة هى قصور قاموسى اللغوى عن التعبير عن فكرة أو حدث أو مشهد ما، لا داعى للتواضع، فاللغة بشكل عام قاصرة عن التعبير أو نقل الأشياء والأفكار بالشكل الأمثل والدقيق، كلمة شجرة مثلا هل تكفى لنقل حضور الشجرة التى أراها أمامى الآن، أم أنه لابد أن آخذك من يدك وأضعك أمامها مباشرة، وهل فى هذه الحالة ستظل شجرتى أما أنها ستصبح شجرتك، دائما هناك فكرة أو مشهد أو شجرة، ودائما لا توجد اللغة الجديرة بتجسيدها.