رحل الإمام محمد بن إسماعيل البخارى صاحب (صحيح البخارى) فى سنة 256 هجرية، وهو عام حافل بالأحداث، فما الذى يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ بن كثير تحت عنوان الإمام محمد بن إسماعيل البخارى:
صاحب الصحيح، هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن يزدزبه الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام، ولد البخاري - رحمه الله - في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشر سنة حتى قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة.
فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
وروى عنه خلائق وأمم.
وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفا لم يبق منهم أحد غيري.
وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه، وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد. وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي؛ وقد توفي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. ووثقه الأمير أبو نصر بن ماكولا.
وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم.
وقد دخل بغداد ثمان مرات، وفي كل منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد ويلومه على الإقامة بخراسان.
وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة. وقد كان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا هذه قد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك، أو قال: بكائك، فأصبح وهو بصير.
وقال البخاري: فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوا من مائتي ألف حديث مسندة.
وكان يحفظها كلها.
ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرؤوها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة في إسناد ولا متن.
وكذلك صنع في بغداد.
وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة.
والأخبار عنه في ذلك كثيرة.
وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه.
فقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله.
وقال علي بن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه.
وقال إسحاق بن راهويه: لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير: ما رأينا مثله.
وقال علي بن حجر: لا أعلم مثله.
وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها، كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم.
وقال أبو العباس الدعولي: كتب أهل بغداد إلى البخاري:
المسلمون بخير ما حييت لهم ** وليس بعدك خير حين تفتقد
وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث.
وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: هو فقيه هذه الأمة.
وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي.
ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقال قتيبة بن سعيد: رحل إلي من شرق الأرض وغر بها خلق، فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال مرجى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء - يعني في زمانه - وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا.
وقال: هو آية من آيات الله تمشي على الأرض.
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي: محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبا.
وقال إسحاق بن راهويه: هو أبصر مني.
وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق. وقال عبد الله العجلي: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول، ولم يكن مسلم يبلغه، وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا، وكان حييا فاضلا يحسن كل شيء.
وقال غيره: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الأسامي والكنى والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل بن عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
وقال الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري، وكنا يوما عند عبد الله بن منير فقال للبخاري: جعلك الله زين هذه الأمة.
قال الترمذي: فاستجيب له فيه.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - ﷺ - ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.
ولو استقصينا ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته لطال علينا، ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان.
وقد كان البخاري - رحمه الله - في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء.
وقال البخاري: إني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطالبني أني اغتبته.
فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك. فقال: ليس هذا من هذا.
قال النبي - ﷺ -: «إيذنوا له فلبئس أخو العشيرة».
ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا.
وقد كان - رحمه الله - يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن في كل ليلة رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه: في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي - وأبى أن يذهب إليهم.
والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمونه جدا، وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد، فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث: «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين». ثم اتفق مرضه على إثر ذلك.
فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعنى سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أياما، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره.
وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.
وقد ترك - رحمه الله - بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله - ﷺ -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به».
الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب، صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره.
وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء:
صحيح البخاري لو أنصفوه ** لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى ** هو السد بين الفتى والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء ** أمام متون لها كالشهب
بها قام ميزان دين الرسول ** ودان به العجم بعد العرب
حجاب من النار لا شك فيه ** يميز بين الرضى والغضب
وستر رقيق إلى المصطفى ** ونص مبين لكشف الريب
فيا عالما أجمع العالمو ** ن على فضل رتبته في الرتب
سبق الأئمة فيما جمعت ** وفزت على زعمهم بالقصب
نفيت الضعف من الناقل ** ين ومن كان متهما بالكذب
وأبرزت في حسن ترتيبه ** وتبويبه عجبا للعجب
فأعطاك مولاك ما تشتهيه ** وأجزل حظك فيما وهب