تمر اليوم ذكرى رحيل الإمام محمد عبده في 11 يوليو من سنة 1905 بعدما ترك أثرا واضحا في الحياة الدينية والاجتماعية في مصر، وكان مما قدمه مجلة العروة الوثقى مع جمال الدين الأفغاني.
ومجلة العروة الوثقى كانت دورية أسبوعية أنشأها جمال الدين الأفغاني مع محمد عبده، ومع أنها صدرت من مارس 1884 إلى أكتوبر 1884 فقط، إلا أنها تعد من أول وأهم المنشورات الإصلاحية المتعلقة بحركة النهضة، كانت موجهة للأمة الإسلامية وكانت كذلك منبرا مقاوما للاستعمار، فحظرتها السلطات البريطانية المستعمِرة في مصر والهند:
وجاء في فاتحة الجريدة:
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
•••
هذا ما تمده العناية الإلهية من قول الحق، متعلقًا بأحوال الشرق، وعلى الله المُتَّكل في نجاح العمل.
خفيتْ مذاهبُ الطامعين أزمانًا ثم ظهرتْ، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الأنفس ثم الْتَوَت، أوغل الأقوياءُ من الأُمم في سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم وخرجوا بهم عن مُحيط النظام، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النُّفُوس البشرية.
ذهب أقوام إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطانُ الخيال، فظَنُّوا أَنَّ القوة الآلية، وإن قلَّ عمالها، يدوم لها سلطانٌ على الكثرة العددية وإن اتفقتْ آحادها، بل زعموا أنه يُمكن استهلاكُ الجم الغفير في النزر اليسير، وهو زَعْمٌ يأباه القياس، بل يُبطله البرهانُ: فإنَّ تقلبات الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقةٌ بأنه إنْ ساغ أن عشيرة قليلة العدد فنيتْ في سواد أُمَّة عظيمة، ونسيتْ تلك العشيرة اسمَها ونسبتها، فلم يجز في زمن من الأزمان إمحاءُ أمة أو ملة كبيرة بقوة أمة تُماثلها في العدد أو تكون منها على نِسبة متقاربة، وإن بلغتْ القوةُ أقصى ما يُمثِّله الخيال.
والذي يحكم به العقل الصريح ويشهد به سير الاجتماع الإنساني، من يوم علم تاريخه إلى اليوم؛ أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف لافتراق في الكلمة، وغفلة في عاقبة لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيم يزول؛ ثم صالتْ عليها قوةٌ أجنبية، أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالتُ عليها وخزات الحوادث، وأقلقتها آلامها؛ فزعت إلى استبقاء الموجود ورد المفقود، ولم تجد بدًّا من طلب النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهي ما تكون بالتئام أفرادها، والتحام آحادها، وأن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد، وهو أيسر شيء عليها.
إن النُّفُوس الإنسانية، وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت، إذا كثر عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النُّفُوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمر ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها تدارك ما فرط والاحتراس من الوقوع في مثله، فتُصيب أخرى فيكون لهم الظفر والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يُطاق إذا قام بتدبيرها قيِّم عليها، ومدبِّر لسيرها، لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها، قهر ذاك القيِّم وإهلاك ذاك المدبِّر، فإن العلة ما دامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن ذهب قيِّمٌ خَلَفَه آخرُ أوسع منه خبرة وأنفذُ بصيرة، نعم، يمكن تخفيف الأثر أو إزالتُه بإزالة علته ورفع أسبابه.
جرتْ عادةُ الأُمم أن تأنف من الخضوع لِمَنْ يباينها في الأخلاق والعادات والمشارب، وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمن هو على شاكلتها، فكيف بها إذا حَمَّلَها ما لا طاقة لها به؟ لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما أنكرتْه بعدت عن الميل إليه، وكلما ابتعدتْ منه بجهة كونه غريبًا تقرب بعضها من بعض، فعند ذلك تستصغره فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب.
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يَعُمُّها من الخطر ألزمَ من التحزُّب للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشدَّ من دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
أَبَعْدَ هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركةٍ فكرية في أغلب أنحاء المشرق في هذه الأيام؟! كلٌّ يطلب خلاصًا ويبتغي نجاةً، وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب ما يصل إليه فكرُه على درجته من الجودة والأفن، وإن العقلاء في كثيرٍ من أصقاعه يتفكرون في جعل القوى المتفرقة قوة واحدة يمكنُ لها القيامُ بحقوق الكل.
بلي، كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر وإن عمي عنه الطامع. وليس في الإمكان إقناعُ الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه، بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه؛ سيكشف لهم وهمهم فيما كانوا يظنون.
بلغ الإجحافُ بالشرقيين غايتَه، ووصل العدوانُ فيهم نهايتَه، وأدرك المتغلبُ منهم نكايتَه، خصوصًا في المسلمين منهم، فمنهم ملوكٌ أُنزِلوا عن عروشهم جورًا، وذوو حقوق في الإمرة حُرموا حقوقهم ظلمًا، وأعزاء باتوا أذلاء وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسَوا فقراء، وأصحاء أضحوا سقامًا، وأُسود تحولت أنعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مَسَّهَا الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصًا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها، حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصتْ عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع؛ فكانت الحركة العرابية العشواء فاتخذوها ذريعة لما كانوا طالبين، فاندفع بهم سيلُ المصاعب، بل طوفان المصائب، على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب، ولكن أخطأ الظن وهَمُّوا بما لم ينالوا.
لم تكد تخمد تلك الحركة في بادئ النظر حتى خلفتْها حركةٌ أُخرى، وفُتح بابٌ كان مسدودًا، وقام قائم بدعوةٍ لها المكانة الأولى في نفوس المسلمين، بل هي بقية آمالهم، ولا ندري الآن ماذا تستعقبه هذه الحركة الجديدة، وربما يوجَد من يدري أن مسببيها في حيرة من تلافيها، نعم إنهم غرسوا غرسًا، إلا أنهم سيجنون، أو هم الآن يجنون منه حنظلًا ويطعمون منه زقومًا، لا جرم هذه هي العواقب التي لا محيص عنها لمن يغالي في طمعه ويغلغل في حرصه، ولو أنهم تركوا الأمر من ذاك الوقت لأربابه وفوضوا تدارُك كل حادث للخبراء به والقادرين عليه العَارِفين بطرق مدافعته أو اقتناء فائدته؛ لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة بدون أن تزل لهم قدمٌ أو ينكس لهم علم.
غير أنهم ركبوا الشَّطَط وغَرَّهم ما وجدوا من تفرق الكلمة وتشتُّت الأهواء، وهو أنفذُ عواملهم وأَقْتَلُها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب، وما أسرع أنْ يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلوب المعتدين، فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعوفي منه باقيها؛ كانتْ سلامة البعض تعزية للمصابين وحجاب غفلة للسالمين يحول بينهم وبين الإحساس بما أصاب إخوانهم، أما إذا عَمَّ الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر فيندفعوا إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عمومًا. إن مصر تعتبر عندهم من الأراضي المقدسة ولها في قلوبهم منزلةٌ لا يحلها سواها؛ نظرًا لموقعها من الممالك الإِسلامية، ولأنها بابُ الحرمين الشريفين، فإنْ كان هذا الباب أمينًا كانتْ خواطر المسلمين مطمئنة على تلك البقاع، وإلا اضطربتْ أفكارُهم وكانوا في ريب من سلامة رُكن عظيم من أركان الديانة الإِسلامية.
إن الخطر الذي أَلَمَّ بمصر نغرت له أحشاء المسلمين، وتكلمت به قلوبهم، ولن تزال آلامه تستفزهم ما دام الجرح نغارًا، وما هذا بغريب على المسلمين؛ فإن رابطتهم الملية أقوى من روابط الجنسية واللغة، وما دام القرآنُ يُتلى بينهم وفي آياتِهِ ما لا يذهب على أفهام قارئيه فلن يستطيع الدَّهْر أن يذلهم.
إن الفجيعة بمصر حركتْ أشجانًا كانت كامنة، وجَدَّدَتْ أحزانًا لم تكن بالحسبان، وسرى الألمُ في أرواح المسلمين سريانَ الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومُراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفُّس زفيرًا، بل نفيرًا عامًّا، بل يكون صاخَّةً تمزق مسامع من أصمه الطمعُ.
إن أولى المتغلِّبِين بالاحتراس من هذه العواقب جيلٌ من النَّاس لا كتائب له في فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالقَ يسوقُها للاستملاك سوى المُحاباة، ولا أَسِنَّة يحفظ بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان متقاربة الأشكال كحافظ عروش الملوك والمُدافع عن ممالكهم ومثبت مراكز الأمراء ومُسَكِّن الفتن ومخلِّص الحكومات من غوائل العصيان وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق الذي يكفي لتمزيقه رجع البصر وكر النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مكنتهم وهو يعلم أن الكلمة إذا اتحدت لا تعوزها الوسائط ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس يساعدهم بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب، فهو يضر ليضر، إن مسه الضر.
إلا أن غشية النهم ذهبت بعقول المنهومين ووقرتْ أسماعهم عن حسيس الهمسات المتراسلة من الهند إلى مكة ومن مكة إلى مصر، والكرير١ الممتد من مصر إلى مكة ومن مكة إلى الهند، وكلها تتلاقى بين تراقي المغرورين بقوتهم المسترسلين في جفوتهم.
إن الرزايا الأخيرة التي حلتْ بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربتْ بين الأقطار المتباعدة بحدودها المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظتْ أفكار العقلاء وحولتْ أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدتْ بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر وتواصلوا في طلب الحق وعمدوا إلى معالجة الحق وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلًا حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر منها لنهزة تغتنم وإليها بسطوا أكفهم، لا يخالونها تفوتهم، ولئنْ فاتتْ فكم في الغيب من مثلها، وإلى الله عاقبة الأُمور.
تألفتْ عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار، خصوصًا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد، ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يُشفق منه حيٌّ على حياته.
ولما كانتْ بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم؛ رأوا أن يَعقدوا الروابط الأكيدةَ مع الذين يتململون من مُصابهم ويحبون العدالة العامة ويُحامون عنها من أهالي أوروبا، وكتبوا على أنفسهم النظرَ في أمر السلطة العامة الإِسلامية وفروض القائم بها، وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين وفيها موسم الحجيج العام في كل عام يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير والغني والفقير؛ كانت أفضل مدينة تتواردُ إليها أفكارُهم ثم تنبث إلى سائر الجهات — والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
ولَمَّا كان نيل الغاية على وجه أبعدَ من الخطر وأقربَ إلى الظفر؛ يستدعي أن يكون للداعي في كل قلب سليم نفثةُ حق ودعوة صدق؛ طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين مَنْ خفي عن شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرفِ لسان عندهم وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة باريس ليتمكنوا بواسطتها من بَثِّ آرائهم وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية؛ تنبيهًا للغافل وتذكيرًا للذاهل، فرغبوا إلى السَّيِّد جمال الدين الحسيني الأفغاني أن ينشئ تلك الجريدة بحيث تتبع مشربهم وتذهب مذهبهم، فلَبَّى رغبتَهم، بل نادى حقًّا واجبًا عليه لدينه ووطنه، وكلف الشيخ محمد عبده أنْ يكون رئيسَ تحريرها، فكان ما حمل الأول على الإجابة حمل الثاني على الامتثال — وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.
الجريدة ومنهجها
سيأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان من بيان الواجبات التي كان التفريطُ فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارُك ما فات، والاحتراس من غوائل ما هو آت.
ويستتبع ذلك البحث في أصول الأسباب ومناشئ العلل التي قصرت بهم إلى جانب التفريط والبواعث التي دفعتْ بهم إلى مهامه حيرة عميت فيها السبل، واشتبهت بها المضارب، وتاه فيها الخريت،٢ وضل المرشد حتى لا يدري السالكون من أين تفجعُهم الطوارق المفزعة والمزعجات المدهشة والمدهشات القاتلة.
وتكشفُ الغطاء ما استطاعت عن الشُّبه التي شغلتْ أوهام المترفين، ولبَّست عليهم مسالك الرشد، وتزيح الوساوس التي أخذت بعقول المنعمين حتى أورثتهم اليأس من مداواة علاتهم وشفاء أدوائهم، وظنوا أن زمان التدارك قد فات وأن العناية بلغت حدها.
وتحاول إشراب الأفهام أنْ لا حاجة في الوصول إلى نقطة الخلاص المرغوبة إلى قطع دائرة عظيمة، تصورها يوجب فتور الهمم وانحطاط العزائم، وأن تخيل تلك الدائرة الواسعة إنما عرض من الإدبار عن المطلوب وهو تحت الجناح ويَكفي في الوصول إليه عطفةُ نظر وقطع بعض خطوات قصيرة.
وإن الظهور في مظهر القوة لِدَفْع الكوارث إنما يلزم له التمسُّك ببعض الأُصُول التي كان عليها آباءُ الشرقيين وأسلافهم، وهي ما تمسكتْ به أعز دولة أوروبية وأمنعها، ولا ضرورة في إيجاد المنعة إلى اجتماع الوسائط وسلوك المسالك التي جمعها وسلكها بعض الدول الغربية الأخرى، ولا مُلجئ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوروبي في نهايته، بل ليس له أن يطلب ذلك، وفيما مضى أصدقُ شاهد على أنَّ من طلبه فقد أوقر نفسه وأمته وقرًا أعجزها وأعوزها.
وتنبه على أن التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية، فإن فقد التكافؤ لم تكن الرابطة إلا وسيلة القوي لابتلاع الضعيف، وتجعل إهاب الوداد المرقش بألوان الملاطفة المدبج بأشكال المجاملة شَفَّافًا يَنُمُّ عما وراءه، وتنقب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات.
وتهتم بدفع ما يُرمى به الشرقيون عمومًا والمسلمون خصوصًا من التهم الباطلة، التي يوجهها إليهم مَن لا خبرة له بحالهم ولا وقوفَ على حقائق أُمورهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون إلى المدنية ما داموا على أُصولهم التي فاز بها آباؤهم الأولون، ولا تهن في تبليغ الشرقيين ما يمسهم من حوادث السياسة العمومية وما يتداوله السياسيون في شئونهم مع اختيار الصادق، وانتقاء الثابت، وتراعي في جميع سيرها تقويةَ الصلات العمومية بين الأُمم وتمكين الأُلفة في أفرادها وتأييد المنافع المشتركة بينها والسياسيات القويمة التي لا تَميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
ومع كل هذا، فهذه الجريدة تتبع سير الداعين إليها والحاملين عليها، لا تظهر إذا أدلجوا، ولا تنجد إذا غوروا، وتذهب مذاهبَ الرشد، وتصيب — بحول الله — مواقعه عند من سبق في أزلي علم الله هدايته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وترسل إلى الذين نعرف أسماءهم مجانًا بدون مقابل ليتداولها الأمير والحقير والغني والفقير، ومن لم يصل إلينا اسمه فما عليه إلا أن يكتب إلى إدارة الجريدة بالاسم المعروف به ومحل إقامته على النهج الذي يريده، والله الموفق.