توالت الأحداث فى عهد الخليفة المعتمد على الله، وكثرت الصراعات فى هذه السنوات، ومات من الأعيان أشخاص لهم مكانة، ومنهم الإمام مسلم صاحب الصحيح، فما الذي يقوله التراث؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ بن كثير تحت عنوان "سنة إحدى وستين ومائتين":
فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس، لممالأتهم يعقوب بن الليث عليه.
وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة، فشخص إليه مسرور البلخي، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق.
وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح، فكسره ابن واصل وأسره، وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا، فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد.
وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا، وغلبتهم الزنج، ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الأهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما.
وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج.
وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان.
وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه، وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم.
وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد.
وأصلح الله به تلك الناحية.
ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق، وضم إليه مسرور البلخي وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكوردجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والرى وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة.
وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق.
وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن سليمان الرهاوي.
وأحمد بن عبد الله العجلي.
والحسن بن أبي الشوارب بمكة.
وداود بن سليمان الجعفري.
وشعيب بن أيوب.
و عبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله.
وأبو شعيب السوسي.
وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية.
وعلي بن إشكاب وأخوه أبو محمد، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح.
ذكر شيء من ترجمة مسلم بن الحجاج النيسابوري
هو مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، أحد الأئمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه، وفي الجملة فإن مسلما لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري.
والمقصود أن مسلما دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم.
وروى عنه جماعة كثيرون منهم: الترمذي في جامعه حديثا واحدا وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «احصوا هلال شعبان لرمضان».
وصالح بن محمد حرره. وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الأسفراييني.
وقال الخطيب: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
وروى الخطيب قائلا: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.
وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه: أي رجل كان هذا؟
وقال إسحاق بن منصور لمسلم: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
وقد أثنى عليه جماعة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلما ما يثبت في الحديث.
وروى الخطيب عن أبي عمر محمد بن حمدان الحيري قال: سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم؟
فقال: كان البخاري عالما ومسلم عالما، فكررت ذلك عليه مرارا وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لأنه كتب المقاطيع والمراسيل.
قال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه.
ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه.
وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء. قال الخطيب: وأخبرني أبو بكر المنكدر، ثنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في كفارة المجلس فما علته؟
فقال البخاري: هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله.
قال البخاري: وهذا أولى فإنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل.
قلت: وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة، وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله.
قال الخطيب: وقد كان مسلم يناضل عن البخاري.
ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودى على البخارى بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوما لأهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج: ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا.
فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إليه، وترك الرواية عن الذهلي بالكلية، فلم يرو عنه شيئا لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما.
هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله.
وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله: أنه عقد له مجلس للمذاكرة فسئل يوما عن حديث، فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لأهله: لا يدخل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح، وقد أكل تلك السلة وهو لا يشعر.
فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى.