خالد دومة يكتب: إنها لم تمت

كان جدى لا ينام إلا قليلا، بعد أن ماتت جدتى، وهو يجلس مجلسها، يؤدى أورادها، رغم أن جدي لم يكن يعتني بجدتي، أو يقول لها كلمة طيبة، دائما ما كانت في نظره امرأة أو لا شيء، لم تغير السنوات الطويلة، من نظر جدي لجدتي، وبعد رحيلها رأيت جدي يفعل، ما كانت تفعله بدقة عجيبة، كنت أرى دمعة على مقلتيه، حين أسترق النظر إليه، لم تسمع جدتي منه يوما، كتر خيرك أو كلمة شكر، عن خدمتها له دون كلل، سنوات طويلة لم تكن تتكلم إلا قليلا، ولكن أنفاسها تملأ الحجرة، رائحتها تغزو المكان، كل شيء يُذكره بها، بصمتها برضاها، بجلستها أمام الموقد. عندما كانت أمامه لم يكن يراها، كان المكان خالي، فكر أن يتزوج، ولكن كلما أعلن عن رغبته، هاجمه الكثير من أصحاب جلسات المصاطب، فعاد يكبت رغبته، ويعلو صوته، لم تشفع لجدتي نظرة الخوف، التي تملأ قلبها النقي، إنها لم تفعل ما يغضبه يوما، وحتى لو فعلها وتزوج، لم يكن لها أن تعترض، أو تنفر، ولعلها تتمناه في أعماقها، ليتركها ومصلاها، عندما كان يعود من صلاة الصبح، تعد له الشاي، إنه يشرب الشاي، دون أن يتناول شيء من طعام، ولما نبهته خوفا على صحته نهرها، فلم تريد أن تغضبه، كان وجودها يقف حائل بينه وبين شيء ما، عندما أستيقظ يوما، ووجدها منكفئة على مصلها، أحدث صخبا، كي تنتهي سريعا، لكنها لم تنتبه، ناداها لم تجيب، حركها بيديه، لكنها سقطت، كانت قد فارقت الحياة ساجدة، كما كانت تتمنى، ربما حزن قليلا. بعد أن دفنوها وتلقوا العزاء، دخل حجرته، أوشك أن يناديها، تصنع له كوبا من الشاي كما اعتاد، أدرك أنها لم تعد هنا، فرشتها لم تزل دافئة، الراديو بجوار الفرشة، إذاعة القران الكريم تبث آيات من الذكر الحكيم، بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، كانت تحبه كثيرا، حفظت جدتي أوقات البرامج، رغم أنها لم تذهب إلى المدارس، علمتها الإذاعة الكثير، توثقت صلتها بالله، ومعرفتها به، من خلال إذاعة القرآن الكريم، عرفت ما يحب، وما يكره، ما يقرب العبد منه، وما يبعده عنه، كانت تحيا الليل كله معه، وفي رحابه، تلتقي به في ركعات، لا تعلم عددها، تدعوه كثير، تتضرع إليه، تبكي وتخاف، كانت تطيعه، ولا تفعل ما يغضبه. في مساء ما، تأمل جدي الغرفة، التي طالما عاش فيها، كأنه يراها للمرة الأولى، شعر بأنها أصبحت فارغة، إنها كالفضاء الفارغ، وتقلبات غريبة، إن الجو حار خانق، ورغم ذلك، يشعر بالبرد، إن شيء لم ينقص عن الأمس، كل ما هنالك أن كتلة، من اللحم والدم أختفت من الحجرة، لا شيء أكثر، يحدث نفسه بصوت هامس، كنت أراها عائق لرغبة كامنة في نفسي، كان يجب أن أتنفس الصعداء، بعد رحيلها، أخذ نفسا عميقا، أبدأ حياة جديدة، شهرين على الأكثر، ومن كانوا يلومنني، هم من سيحرضوني على الزواج، وإنه لا يجب علي أن أجلس هكذا دون امرأة، ما بال الأيام أصبحت ثقيلة مضنية، لا تمر، الشعور بالغربة يزداد، صورتها لا تغادر مخيلتي، كل شيء يذكرني بها، وإذا ما غادرت الحجرة أنتابني شعور بالحنين، لا أعرف، شعور بعدم الأمان حين أكون بعيدا عنها، إني أراها ماثلة أمامي في كل شيء، وعندما كانت تجلس لم أكن أراها، إنها تطاردني، أقوم فزعا من النوم، أجلس مكانها، وأدعو كما كانت تدعو، وأتضرع كما كانت تتضرع، في صباح الأربعين لموت جدتي، طرقت الباب على جدي، لم يخرج جدي للصلاة، لعله مريض، آتي إليه كل صباح بالإفطار، وأصنع له الشاي، الذي يشربه بإمتعاض، لم يجيب، ناديته لكنه لم يرد، كان ملقى على فرشة جدتي، وفي عينيه دمعة لم تجف بعد.



الاكثر مشاهده

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

;