لم تكن منطقة الشرق الأوسط طوال تاريخها منطقة بعيدة عن العقيدات والصراعات وهو ما أثر بالتأكيد على هويتها، وذلك في ظل التبدلات والتحولات المستمرة فى خريطة التنوع الديني والإثنى واللغوي في منطقة الشرق الأوسط وما ترتب على ذلك كله من عودة أشكال وهويات قديمة كانت غائبة، هذه التبدلات الكبرى في هوية المنطقة ما يحاول تفسيرها والإجابة على العديد من التساؤلات الخاصة بها كتاب "ديناميات الهوية: نهاية وانبعاث التنوع في الشرق الأوسط" من تأليف الباحث سعد سلوم، والصادر حديثا عن دار الرافدين.
وجه جديد لداعش
لعل الكثير سمع عن الديانة الزرادشتية، تلك الديانة التي ظهرت قبل أكثر من 3 آلاف عام وكانت سائدة في الشرق الأوسط قبل انتشار الأديان الإبراهيمية الثلاث "اليهودية، المسيحية، الإسلام" بل أن هذه الديانات الثلاث الكبرى تأثرت بالعديد من مبادئها، ويلفت الكاتب هنا السياق الاستعادي الثري من محاولات بدأت تقوم في الأراضي الكردية من أجل إعادة إحياء الديانة الزرادشتية، وهو الذي يختلط في الوقت نفسه بسعي قومي هناك لإعادة الكرد إلى معتقداتهم الأصلية قبل ظهور الإسلام.
ولفت المؤلف إلى أن "بيير لقمان" زعيم هذه الجماعة كان حذرا في إعلانه، إذ ابتعد عن صراع السلطة والثروة، وتجيب قاموس المطالبات والاستحقاقات، ليتوفر له ولاتباعه هامش من الحرية لإحداث ثورته الاستعادية لتراث روحي وفلسفي، وأكد لقمان أن جماعته الدينية ليست جماعة ذات أهداف سياسية بقدر ما تطمح إلى ثورة روحية أو كما يطلق عليها "ثورة ثقافية".
الكاتب يفسر محاولات استعادة التراث الزرادشيتي بفشل الدولة القومية في العراق، مشيرا إلى أنه مثلما كانت داعش نتاجا معقدًا لفشل الدولة مضفورا بعوامل إقليمية ودولية، كذلك فأن عودة زرادشت إلى العراق بعد غيابه بأكثر من ألفي وخمسمائة عام يؤشر إلى مخرجات هذا الفشل، وقد يحفز هذا الظهور نقاشا متعلقا بحرية المعتقد وحدود الحرية الدينية في العراق والشرق الأوسط، ويرى أن تحكم الانبعاث الجديد للزرادشتية في موطنها الأصلي معقد، ويتصل بالصراع الذى تشهد المنطقة منذ عقود، وأن الزرادشتية ستعود في شكلها الطائفي الدموي.
ثورة التمييز العنصرى
يرى الكاتب أنه منذ فوز الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة في 2008، وحتى مقتل جورج فلويد في مايو 2020، ويبدو أن أن الوعي بحقوق ذوى البشرة السمراء يتصاعد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟، ويجري الإقرار بالتمييز الذي تواجهونه في أكثر من بلد عربي أو مسلم، مشيرا بأنه بينما أثار مقتل جورج فلويد الاحتجاجات في الولايات المتحدة، أثار نقاشات واسعة في الشرق الأوسط عن التمييز وعدم المساواة التي لا يزال يواجهها الأمريكيون من أصول أفريقية، فقد استخدمها المناهضون للسياسات الأمريكية للدلالة على فشل الولايات كنموذج للتغيير الديموقراطي في المنطقة، لكن سرعان ما أثير نقاش آخر، اتسعت دائرته لتشمل التمييز وعدم المساواة الذي تتعرض له فئات من ذوى البشرة السوداء في البلدان العربية، مستشهدا بحركة "أنصار الحرية" التي ظهرت في العراق وبالتحديد في مدينة البصرة لمواجهة التمييز ضد الأفرو عراقيين والذين يقدر عددهم بحوالي 400 ألف.
مستقبل التنوع في المنطقة
يذهب الكتاب إلى أنه لا يمكن فصل إحساس الأفراد بالمواطنة، عن السياق الشامل لأزمة فقدان الثقة بالنظام السياسي القائم على أنموذج "دولة المكونات" لجميع المواطنين على اختلاف خلفياتهم الدينية والقومية والمذهبية، أو بمعني آخر فصله عن أزمة الثقة العامة، لذلك تعتبر مهمة بناء الثقة مسئولية ملقاة على عاتق من يسهمون في إنتاج نموذج بديل، يراعى تحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية، وهو ما يمكن أن يقدمه – من وجهة نظر الكاتب – نموذج الدولة أو الأمة الحاضنة للتنوع والذى تساعد على انصهار الفئات مع بعضها البعض دون تمييز، لأن نموذج الهندسة الفوقية للأمة، أهمل على نحو كبير جماعيات كثيرة، فاستبعدت عن تشكيل هوية أمة جامعة، ولتجد تقاليدها وثقافاتها محظورة أو مدانة أو منسية في أحسن الأحوال، فقد كانت فلسفة القومية استيعابية بالإكراه، وفرزت آلياتها التوحيدية لإنتاج الهوية المشتركة مثل "التعليم" هوية آحادية طردت الآخر الداخلى من معادلة تخيل الأمة، خالقة فجوة معرفية بمكونات المجتمع، ومن ثم ضد سيرورة إنتاج هوية تعددية.