الصوتُ جميل، الصوت بالغ الجمال؛ لم أسمع شيئا فى قوته أو نقائه أوعذوبته من قبل. الصوتُ يتردد واثقا بجماله ويتركنى منتشيا، تكاد عيناى تدمعان من فرط المتعة والسرور. أدركُ على مهل أن هذا الصوت لمؤذن ينادى للصلاة، بل وأعرف أيضا، دون أن أفهم كيف توصلتُ لذلك، أنه يؤذن لصلاة الفجر. رغم استمتاعى بالصوت وبالأذان أبدأ رويدا رويدا ألاحظ شيئا غريبا، وأتساءل فى حيرة، كيف؟ إن الأذان الذى يتردد ينطق بالفرنسية! تزول النشوة، يبدأ قلبى ينقبض، وأشعر بنفور تامّ. أتساءلُ، هل يصح ذلك، أو يجوز. كان الأذانُ أذانَ الله، كما اعتدنا عليه فى طفولتنا وصبانا، لكنه ينطق بفرنسية واضحة، ناعمة، ما ألبثُ أن أدركَ بشىء من التركيز أن صوت مؤذّنها صوتٌ حريمى متغنج! أعوذ بالله! يزداد شعورى بالانقباض، فيما صدى ذلك الأذان العجيب يتردد فى الفضاء بلا نهاية.
الصوت يتردد بين النقاء والغواية، فى فضاء أبيض لا أرى له آخر، وحين أفتحُ عيني، أميّزُ صوت الرنين، وألمح، بين الغفو واليقظة، رقم عيادة الاستقبال على شاشة جهاز الاستدعاء. أستيقظ تماما، وأدرك أنى نعست رغما عني، جالسا أمام الكمبيوتر، فى غرفة الأطباء المقيمين المعتمة المقبضة. أستعيذ بالله، وأبتسم من ذلك الحلم العجيب. تُرى أين الزميل فرويد أو الزميل يونج ليفسره لنا فى منتصف الليل. أستعيد ذهنى تماما، أطلب عيادة الاستقبال فيجيئنى صوت الممرضة مارجا البدينة، كسولا متأففا، بلكنتها الفرنسية الشمالية، الفلاحي، الخشنة:-
"هل كنتَ نائما؟" ولا تنتظر إجابتي، تضيفُ بسرعة:-
"عندنا حالة، جاء بها البوليس الآن. انزِل"
أجيبها أنى سأنزل فورا، فتقول، كالعادة، فيما لا يمكنك الجزم ما إذا كان تعبيرا عفويا أم وقاحة مقصودة:-
"سنحتاج مهارتك اللغوية كذلك. إنه عربيّ، يتكلم المصرية مثلك؛ ألا يتحدث العربُ اللغة المصرية"
تمط ألف المد فى Les arabes وأفكر أن أشرح لها أنه لا يوجد شىء يدعى اللغة المصرية، إلا أن العمر أقصر والمرارة أضيق من أن تضيعها فى الشرح لمارجا البلهاء الوقحة. أقول مُنهيا الحوار:-
"أنا نازل حالا"
أستلم الملف الخاص به، ألقى نظرة من وراء النافذة الزجاجية العريضة على الضابطين الواقفين بالخارج، والفتى النحيل الملتحى الجالس على كنبة الانتظار بالكلبشات فى يديه! أقلب فى الملف ولا أجد شيئا سوى كارت التأمين الصحى وعليه اسم المريض وصورته وورقة من شرطة الحى الرابع عشر مكتوبة بخط ردىء، تتبين منها كلمات متناثرة؛ محاولة اقتحام، اتصال، تهيج، ثم تلك الكلمة الفرنسية الجميلة المتكررة فى كل نبطشية مرة على الأقل، Harcèlement والتى ترجمتُها، معاكسة، أو تحرّش، تقريبا. ألقى نظرة ثانية على الفتى الجالس بالخارج، والذى يبدو أنه لا يمنعه عن ارتكاب حماقة ما إلا ضعفه وإنهاكه الواضحين. ألمحه يحاول دفع الضابط بيدين مكلبشتين خائرتين فتطيش الضربة فى الهواء. يضع الضابط يديه على كتفيه برفق ويجلسه، فيرمقه الفتى بنظرة عنيفة. أقرأ الاسم المدون على بطاقة التأمين الصحي. أطلب من الممرضة إجراء فحص كحول فى التنفس؛ غالبا ما يكون المريض فى هذه الحالات مخمورا أو متعاطيا لمخدر ما ثم أبحث فى الكمبيوتر عن اسمه، طلال فيصل، ولا أعثر على شيء؛ لم يدخل مصحة نفسية من قبل، وليس لديه سجل مرضى لدينا ولا فى باقى مستشفيات فرنسا. تعود الممرضة وتقول أن نسبة الكحول فى التنفس صفر. يمكننى الآن أن أخرج لهم. ألقى نظرة أخيرة على المشهد، على الفتى المتهالك بين ضابطين فرنسيين، قبل أن نبدأ محاولة الفهم.
لسبب ما، غامض، يتعرف المصريون على بعضهم البعض فى الغُربة! احتلّنا طوب الأرض فلم يبق لنا شكل واضح ولا ملامح مميزة حافظت على نقائها العرقي، نسبيا، مثل الأفارقة أو الهنود أو السلافيين، ووقع اسم الفتى المدون على بطاقة التأمين الصحى عربي، خليجى أو عراقي، ولا يوحى أبدأ أنه مصري. أتأمل ملامحه، يمكن لهذه الملامح أن تكون لأى جنسية عربية أخرى، غير أن واقع خبرتى بعد عامين يقول أن المصرى يعرف المصري، ولم أفهم أبدا كيف! ربما من وقفته المتراخية، مشيته الثقيلة، ابتسامته الساذجة اللئيمة، ارتباكه بسبب وبدون سبب، حركته الخجولة المتعثرة وشعورك - أو شعوره - الدائم أنه نصاب على وشك أن ينكشف أمرُه. مضيت إلى الفتى شبه موقن أنه سيكون مصريا، ولم يكذب هو ظني، ولا ترك لى مساحة لأستفسر، ذاك أنه أول ما رآنى رفع بصره إليّ، وقال بصوت منكسر حاد، وبحنجرة يبدو أنه استهلكت صراخا:-
"كسّم الحب يا دكتور. كسّم الحب"
باستثناء هذا التعليق يرفض الفتى تماما، وبحدة، الكلام بالعربية. يحاول شرح ما حدث بفرنسية مفهومة نوعا ما - رغم امتلائها بالأخطاء، ولجوئه كثيرا للكلام بالإنجليزية لشرح ما يقول، ولم يكن من الصعب أن ترسم صورة عامة للحكاية. كان مرتبطا بفتاة فرنسية ويبدو أنها أرادت إنهاء العلاقة ويبدو أيضا - كالعادة فى مثل هذا النوع من الحكايات - أنه لم يتقبل ذلك، ذهب إليها عند البيت وحين رفضت أن تسمح له بالدخول ظل يطرق الباب و يرن الجرس بطريقة هستيرية محاولا اقتحام المنزل حتى اتصلت الفتاة بالشرطة. يخبرنى الضابط أن الفتى دفعه فى صدره بعنف وهو يصرخ ويحاول مواصلة طرق الباب. كان ينادى عليها، يبكي، وينتزع أوراقا من حقيبته يدفع بها، من تحت الباب، داخل شقتها. لم تفلح محاولات الضباط - وفق روايتهم - فى السيطرة عليه فاتصلوا بعربة الإسعاف وجاؤوا به من مونبارناس إلى أقرب مصحة - هنا - عندى فى مستشفى سانت آن. يقدم لى المُسعف ورقة بها وصف عام لحالته، التوتر والعدوانية وفقدان السيطرة عليه، وورقة أخرى ببيان حالته القانونية - أنه لاجىء وأنه يقيم فى بيت للاجئين! يضيف بشكل دراماتيكي:-
"نحن لا نعلم عنه شيئا!"
أطلب من الشرطة أن تفك الكلابشات، فينزعونها فى حذر وينزلونه من على سرير الإسعاف. أصحبه مع ممرضتين إلى غرفة العزل فى العنبر المغلق. لا يبدى الفتى أى مقاومة، يمشى أمامنا فى استسلام منكسر. يجلس على المرتبة الخالية فى حجرة العزل الضيقة، ويسأل بصلافة:-
"كم من الوقت سأبقى هنا؟"
تتولى مارجا الجواب وهى تضع اللحاف وزجاجة الماء بجواره:-
"لا نعرف بعد. هل تريد أن تأكل؟!" فيهز رأسه، تلقى له بعلبة بسكويت وتقول:-
"الإفطار فى السابعة. يمكنك الآن أن تتحدث مع الطبيب. إنه يتحدث نفس لغتك كما أظن"
يكرر رفضه الكلام بالعربية. أحيانا كان يصعب عليه فهم أسئلتى فكنت أعيد صياغتها بالعربية، فى موقف هو الأكثر غرابة مما مرّ على فى عامين من العمل فى هذه المستشفى الباريسية، ليجيب هو بالفرنسية أو الإنجليزية. أخرجَ لى من حقيبته أوراقا تثبت انتسابه لكلية الحقوق بالسوربون طالبا للماجستير، وأوراقا أخرى بخصوص منحة الكتابة الحاصل عليها من المركز الثقافى CNL لكتابة رواية ما ودعم مشاريع ثقافية. كان متوترا تماما، يتكلم وهو يرتعش. يقول أن المرأة التى ألقت به للبوليس كانت صديقته لعامين، منذ تعرف عليها وقت الثورة فى مصر. من السهل أن يبدو الأمر أنه مجرد عربى همجى يتحرش بسيدة فرنسية لا تريده، لكنهما كانا فى علاقة. يسألنى بأداء نصف مسرحي:-
"هل لو كنتُ فرنسيا كان سيُلقى بى إلى هنا بهذه الطريقة؟"
وفى الحقيقة لا علاقة لجنسيته بالأمر؛ عدد المرضى فى عنبر الطوارئ من الفرنسيين بسبب مطاردة امرأة ما يفوق عدد أى جنسية أخرى. أحاول تلطيف الجو فأقول له أننا فى باريس؛ حيث جنون الحب هو الخلل الأكثر شيوعا الذى يمكن أن تلتقى به مستشفيات الطب النفسي. أسأله عن المكان وعن تاريخ اليوم وسبب مجيئه إلى هنا فلا أجد فى إجاباته خللا فى الوعى أو الإدراك. أتعجب قليلا حين اسأله، باسما، سؤال الساعة الذى يشغل كل مصرى فى الأيام الأخيرة:-
"ثورة ولا انقلاب؟"
فلا يبدو أنه فهم السؤال. لا يبدو أنه يطالع الأخبار، لكنه يعرف أن مرسى هو رئيس مصر، وأنه تولى الحكم من سنة بالضبط! يقول بطريقة ميكانيكية:-
"مرسى إرهابي. الإخوان المسلمون مجرمون. أنا أعرفهم جيدا وأبى من كبار رجال الإخوان"
يقولها بطريقة فورية وبشكل تلقائى كأنه قالها بنفس الطريقة أكثر من مرة. لم أتمكن من تقييم ما إذا كان هناك وساوس أو ضلالات أو تهيؤات سمعية أو بصرية. كلامه المستمر عن العنصرية وعن وجوده هنا لمجرد كونه عربيا يرسم علامة استفهام حول أفكار ذُهانية ما، لا يمكن تأكيدها. يردد أكثر من مرة اسم صديق له فى باريس يدعى سليمان العطار؛ قائلا أنه مدرس موسيقا وأنه يريد الاتصال به، ولم أستطع تقييم مدى صحة كلامه بخصوص هذا الصديق المفترض. بخلاف ذلك فإن الفتى مصمت تماما، وعدوانيته ظاهرة رغم محاولته السيطرة عليها. أسأله عن الأفكار الانتحارية فيضحك ساخرا:-
"لن أقتل نفسى من أجل هذه الشرموطة الباريسية التافهة"
وحين أسأله عن إمكانية إيذائها يجيب أنه صديقها السابق ومن حقه محاولة استعادة العلاقة. يضيف بمرارة:-
"حتى الفرنسيين يفعلون ذلك"
"ولكن الفتاة لا تريد التواصل معك ثانية!"
فيهز رأسه مثل نمر حبيس فى قفص مرددا بصوت خافت:-
"أنت لا تفهمُ شيئا. .."
لا أرى مبررا لمناقشته فى شعوره بالاضطهاد أو العنصرية الواقعة عليه من جديد. إن شيئا ما يدفعك تلقائيا للنفور من هذا الفتى؛ عجرفته البالغة - رغم صعوبة موقفه، طريقته فى المطالبة بأى شىء - الأكل أو الاتصال بصديقه أو الانترنت أو غيره، لحيته المهملة وشعره الطويل الكيرلى غريب الشكل، إعطائى هاتفه لأقوم بتصويره! ثم اللعب فى الهاتف بعدها - لأدرك أنه يقوم برفع تلك الصورة على الفيسبوك! طريقته فى الكلام بالفرنسية، التى تتراوح بين عامية غليظة أو مفردات وتراكيب أدبية شديدة الغرابة لا تتفق مع هذه الفرنسية العامية، والتى يبدو أنه تعلمها فى الشارع وبوضع اليد - كما يقال. ومن يدري، لعل نفورى منه هو نفورنا الطبيعى من بعض فى الغربة! هذا شىء أدركه - للأسف - بعد فترة من الاستقرار فى فرنسا؛ شعورى بالانزعاج أو الخجل عند رؤية شخص عربى أو مصري، تلك الرغبة الدائمة فى طمس حقيقة أنى قادمٌ من تلك المنطقة البائسة التى تصدر اللاجئين والمجرمين والمتطرفين! فى كل موقف يومى أريد أن أؤكد على هذه الحقيقة، أنا طبيب، أنا لست من أولئك الذين تمتعضون بسبب وجودهم فى بلادكم. أنا طبيب وأقوم بتحضير الدكتوراه، صحيح أنى أتكلم الفرنسية بلكنة واضحة، لكن هذا سيتحسن، كما أنى أتكلم بشكل صحيح، ولا أخطىء فى النحو. أتيت لأتعلم ولم آت هنا لمطاردة البنات أو لنشر دين الإسلام أو لمطالبة مارجا بزيادة حصتى من الطعام. أدركُ أنى أفرطُ فى التحليل والتفسير، أن فرويد ولاكان بحاجة لشىء من الفرملة؛ أستعيذ بالله من الشيطان واستعدّ للمرور الأسبوعى - حيث يستعرض الأستاذ الاستشارى كل الحالات والمرضى فى القسم. يتمشى الأستاذ فى القسم متأنقا متغندرا - لم لا، وقد نام فى بيته مطمئنا، بينما أنا هنا مرابطٌ فى النبطشية طوال الليل. أخبره أن الفتى الذى جاء أمس فجرا لا يزال نائما فيهزّ يديه بطريقته الباريسية اللامبالية، بما معناه أننا يمكن أن نتكلم معه بعد الانتهاء من المرور على باقى المرضى.
محاولا الحصول على تاريخ مفصل للحالة أتصل بالمسؤولة عن الفتى فى بيت اللاجئين، تخبرنى أنه غريب الأطوار منذ انتقل لديها قبل عام واحد. أسألها أين كان يسكن قبل ذلك فتجيبني:-
"مع صديقته، تقريبا"
تصف سلوكه أنه عنيف واستعلائى دائما، كما أنه يدخل ويخرج فى أوقات غريبة، يحادث نفسه، يضحك ويبكى بلا سبب وهو يجلس وحيدا. كثيرا طوال الوقت ما يعزف على الأورج أو يغنى بصوت عال فى وقت متأخر من الليل، تحكى لى أنه أقام الدنيا وأقعدها مرة بسبب ضياع نوتة جلدية سوداء يكتب فيها دروسه الموسيقية وتأملاته، قال أنها سرقت منه ثم وجدها آخر الأمر! يظل أياما طويلة خارج السكن وأحيانا أخرى يبقى فيه وحيدا لا يغادره. كانت تبرر ذلك بأنه فنان، أو روائي. قالت ذلك باستخفاف يوحى بعدم اقتناعها، أو ربما تصديقها لذلك. حين أسألها عن مدى خطورته على نفسه أو غيره تقول أنه أمر غير مستبعد تماما مع عدوانيته ومع غرابة أطواره. من العجيب كذلك أن الفتى ليس لديه أحد فى باريس سوى الفتاة التى طلبت له الشرطة - اتصلتُ بها وكما توقعتُ تماما، بمجرد أن نطقتُ باسمه أنهت الاتصال. أتصلُ بصديقه، المدعو سليمان العطار، أكثر من مرة بلا طائل، لم يبدُ أن لهذا الرقم ولا لهذا الشخص وجود على الإطلاق. آخر المطاف ينتهى الأستاذ من المرور على المرضى ويأتى دور أخينا المصرى غريب الأطوار. يبدو متحفزا تماما منذ اللحظة الأولى. كنتُ أشعر بحرج خفى وهو يتكلم بطريقته المليئة بالأخطاء. قال له الأستاذ أننى يمكننى أن أقوم بالترجمة له - لكنه رفض ذلك بصلف قائلا أن الكلام بالعربية يؤلمه! يحكى الحكاية من جديد، الفتاة التى كان مرتبطا بها ومقيما عندها. طلبه للجوء، الوضع فى مصر، الإخوان. يعرف لأول مرة من الأستاذ أن الإخوان لم يعودوا يحكمون مصر، وأن حركة شعبية كبيرة قامت ضدهم منذ أيام انتهت ببيان عسكري. رغم ذلك، لا يبدو مهتما تماما، يكرر نفس الكلام، بنفس العنجهية، وبنفس العدوانية الظاهرة. يخبره الأستاذ باختصار أنه ينبغى علينا أن نتأكد أنه لن يمارس تلك الأفعال التى تقتحم خصوصية الآخرين مرة ثانية، وأنه بحاجة أن يبقى لدينا أسبوعا أو اثنين حتى يمكن تقييم ذلك، فيعود للكلام عن الفرنسيين وعن العنصرية. يلملم الأستاذ أوراقه وهو ينهى الحوار فيُجن جنون الفتى ويضرب بيديه على الطاولة:-
"هذا ظلم. أنا لم أؤذ أحدا، أنا لست مجنونا"
أحاول تهدئته فيدفعنى فى صدري. يدقّ البوفيسور جرس الإنذار فيأتى التمريض لتكتيف الفتي. ننجح، بعد جهد، فى حقنه بمادة مهدئة، وربطه فى السرير، ثم نرتب موعدا مع القاضى لاستصدار أمر باحتجازه، كما ينص القانون الفرنسي!
بعد ساعتين يجئ القاضى الفرنسي. يستوضحنى عما جرى، وكلما حكيت له شيئا يهز رأسه وهو يقول:-
"لقد قرأت ذلك فى التقرير الذى أرسلتَهُ لي"
يعلق تعليقا هامشيا على صغر سن الفتى - الذى لا يتجاوز الثالثة والعشرين. إنه من مواليد 1990، يقول متعجبا، ثم يعلق على كونه روائيا، يسألنى ما إذا كنت سمعت به من قبل أو قرأت له شيئا فى مصر. أهز رأسى نفيا، فيقرر أن يثرثر قليلا حول علاقة الأدب بالطب النفسى وأهمية الأدب والفنون بشكل عام، وأنا أستمع له بنصف وعى متسائلا بلا جواب، متى ينتهى هذا اليوم المرهق الطويل وأذهب لأدسّ نفسى فى الفراش الدافئ. أُحضرُ الفتى، والذى يبدو أنه قرر أن يهدأ ويمنح انطباعا جيدا حتى يخرج من المستشفى. يزداد نفورى منه، وهو يتكلم بهدوء ورزانة، يحكى حكاية مجيئه لفرنسا وارتباطه بالفتاة وطلب اللجوء. يدهشنى حين يستخدم معلومة التحرك الشعبى ضد مرسي، التى عرفها من ساعتين فحسب، ليؤكد أنه فى هذه الظروف لا يستطيع العودة لمصر! الفتى ذكى لا شك، لكن نفورى منه يزداد كلما تكلم. يحكى عن الرواية التى هو بصدد تأليفها، يقول إن هذا الملحن هو - ويطرقع بإصبعه محاولا العثور على تعبير مناسب - هو مثل موتسارت فى الثقافة الغربية. يثرثر معه القاضى قليلا فى هذا الصدد، ثم يسأله فجأة وبلا مقدمات:-
"ما اسم صديقتك السابقة؟"
هنا يستعيد الفتى وجهه الذى رأيناه أول اليوم، ذلك الوجه العدواني، ويجيب بجفاء:-
"ما علاقة هذا بموضوعنا؟"
يضحك القاضى بشكل استفزازي، أتفهمُ ما يرمى إليه، وهو يقول:-
"ألا ترى أى علاقة؟! أنت هنا بسببها، بالأحرى بسبب محاولتك الاعتداء عليها"
"أنا لم أحاول الاعتداء على أحد. أنا لم أمسّها"
"فى الحقيقة أنا لا أعرف كيف تمضى لديكم الأمور فى مصر، لكن هنا عندنا فى فرنسا إذا أخبرتك المرأة أنها لا تريد التواصل معك فينبغى عليك احترام ذلك"
يربد وجه الفتى وأشعر أنه على وشك أن يقفز ليقبض على عنق القاضي، والذى يحدجه بدوره بنظرة متحدية وهو يضيف:-
"لن أستطيع أن أخرجك من هنا قبل أن أطمئن أنك ستحترم رغبة صديقتك - والتى لم تعد صديقتك الآن - ولن تتعرض لها ثانية. لعلك لا تزال لا تريد أن تخبرنا عن اسمها؟"
على ما رأيت فى هذه الدنيا، فإنى لم أر فى حياتي، أبدا، شيئا مثل النظرة الطويلة التى ألقاها الفتى على القاضى لحظتها، فى عينيه مباشرة، بثبات ومرارة وغضب وحزن وعدوانية، وكل شىء. يحرك رأسه فى هدوء بين النظر للنافذة والنظر للقاضي، ويبدأ على مهل يتكلم بالعربية، لأول مرة منذ رأيته. كأنه ينشد، كأنه يخاطب جمهورا مجهولا أو أشباحا لا يراها سواه. صوته القادم من أعمق مكان فى روحه يردد بعربية، لم أسمع منذ زمن شيئا فى فصاحتها، كلاما غير مفهوم، إلا أنه يبدو رغم ذلك ثقيلا، وموجعا تماما. كأن عفريتا تلبسه فجأة، حين بدأ يتكلم بالعربية، متمهلا، ودون أن يترك لأحد فرصة مقاطعته. ..
*
هل تعرف المطرب محمد رشدي؟ مغرم صبابة، قتلونا يابا، ده الحب قادر، واحنا غلابة! العشق خدنا، من بين صحابنا، والليل صاحبنا، يا ليل يا عين. من يومها واحنا، شايلين جراحنا، غلابة يا احنا، يا مجروحين! هذا هو المختصر المفيد للحكاية التى لا يبدو أحدٌ مُهتما بفهمها. إنكم تعصروننى أسئلةً من أول النهار لتطمئنوا أنى لن أهاتف المحبوبة البعيدة، بضحكتها الفاتنة ووجهها القاسي. تريد أن تطمئن، وتريد أن تعرف الحكاية، أقول أنا لك؛ مغرم صبابة، قتلونا يابا. القاضى يسأل والشرطى يسأل والممرضة تلقى لى بكيس من البسكويت، والطبيب المصرى العجيب يظن نفسه حكيم الزمان ويسألني، كما يسأل الأطباء النفسيون السذج، مع احترامى يعني، ماذا حدث؟ ماذا جاء بك إلينا؟ يسألنى عن تاريخ اليوم وعن تاريخ ميلادي، ويظن نفسه ظريفا ويسألنى "ثورة ولا انقلاب؟" دعنى أسألك أنا إذن، أيهما أكثر كآبة وتقليبا للمواجع، "بعيد عنّك"، أم "هو صحيح الهوى غلاب"؟! ولماذا لم يلحن بليغ حمدى شيئا من كلمات أحمد رامي؟ سأقول لسليمان العطار أن ذلك منطقى تماما، لمن ألقى السمع وهو شهيد، وأنت طبعا لا تفهم شيئا؛ كالعادة يعني، لم يفهمنى أحدٌ من البهائم فى مصر، ولا فهمنى أحد فى باريس المتعجرفة المغلقة على أصحابها، أما مارييل - اسمها مارييل، بما أن حضرتك مهتم بمعرفة اسمها - فكيف كان لها أن تفهمني، فات المعاد وبقينا بعاد، وقد قام بيننا حاجزٌ من عدم التكافؤ الوجداني. ألا يوجدُ هذا المصطلح فى الطب النفسي؟! ترانى إذن قد اخترعته اختراعا - كما كنت أخترع كلمات فرنسية غير موجودة فتضحك هى منّى وعليّ. التكافؤ الوجدانى يا عزيزى هو أنه فى كل حكاية ثمّة واحدٌ يحترق حُبا، وواحد يهز كتفيه بلامبالاة قائلا، أنا آسف! والنار بقت دخان ورماد، المهم يا دكتور، وأنا أعرفُ أننى أستطرد بشكل مبالغ فيه، أنا طلال فيصل، أخوك فى الله طلال فيصل، واحد من حراس اللاشىء، وولى من أولياء الشيطان، أول من قال أحّا فى وجه من قالوا نعم. فهمتُ كل شىء وعرفتُ كل شىء، ورغم ذلك ظل السؤال قائما؛ يا دكتور، يا حبيبي، ايه أجمل م الليل واتنين زينا عاشقين تايهين، ولو قلتَ لى على أى مقام موسيقى يكون لحن هذه الأغنية فسأعطيك نصف يورو. سليمان يؤكد أنه مقام فرح فزا، نهاوند علي صول ثم عجم علي سى بيمول ثم کرد علي ري، ولكن من يفهم. أنا من أيقظتنى أمى لصلاة الفجر فدفعت يدها برفق وطلبتُ منها أن تدعوَ لي. وأنا من سألنى والدى بأسى، لماذا توقفت عن حضور لقاء الأسرة، الإخوانية، فى المسجد فضحكت هازئا ولم أطلب منه شيئا. أنا الذى كُشف عنّى الحجاب وأبصرت النكتة الكبرى ولم أضحك. أنا طلال فيصل، كنتُ الطالب الوحيد الذى حصل على الدرجة النهائية فى اللغة العربية، حفظت كتاب الله فى شهرين وفشلت فى نسيانه. تخرجت واشتغلت وخرجتُ للدنيا بصدرى العاري، كتبت فى جرائد لا حصر لها، ترجمتُ وفتحت دارا وهمية للنشر وقال لى الحظ أنا عبدُك وقال لى الحبّ تعال يا مسكين، أما مارييل فقالت لى لن تنال منّى ما تريد. حين قامت الثورة كنت فى الحادية والعشرين، وبعدها استفتاء مارس، وبعدها ذهبت لباريس ليصرعنى العشق، أو أن العشق كان قد صرعنى فركضتُ وراءه إلى باريس، وإلى مهرجان كان، ورجعت مصر جريحا، ورغم ذلك واصلت مطاردة قصة الحب أو الطموح، انتظرت رنين الاسكايب، وقامت أحداث مجلس الوزراء وركبت الطائرة إلى باريس من جديد. لا أعلم، من منا يعرف دوافعه يا دكتور؟ وان قالوا؛ عن عشّاقه، بيدوبوا فى نار أشواقه، أهى ناره دى جنتنا.
سافرت فرنسا ورأيت كل شىء، وعرفت كل شىء؛ وعلى بابها المغلق فى مونبارناس فى الحى الرابع عشر رأيتُ الله، فعرفت أنه غير موجود، وذهبت إليه حافيا وهو جالس على عرشه، خاطبتُه وهو بين ملائكته، صحتُ دامع العينين، قلتُ له أنه، كالحبّ، وهمٌ وخيالٌ وأسطورة. لم يُجبني، فغادرته مسربلا بالخيلاء والوجع، وكان انتقامه منّى يليق بقسوته؛ جعل مارييل فى القلب شوكةً لا تندمل، وجنونا لا شفاء منه، وصرختُ فحملنى ضباط الشرطة إليك حتى تشفينى. ..
أنا طلال فيصل، قيل إنى موهوب وقيل إنى نصاب، وهاهم يقولون إنى مجنون. وقال ايه جاى الزمان يداوينا، من ايه جاى يا زمان تداوينا. أدركت أنى طاردتُ سرابا، وأدركت أنى أحترقُ فى هوى من يهز كتفيه بلامبالاة. كسرتُ كل شىء وأشعلت النار فى الأرض والسماء وصرخت دون صوت. غادرت بيتها مثقلا بوجيعة لا حد لها. تولى مرسى الحكم، ونمتُ معها وفى الصباح هددتنى بالشرطة لو اقتربت منها. أقسمتُ بإله أعرف أنه ليس موجودا ألا أتصل بها ثانية، وأن أنسى. غادرت ومشيت من مونبارناس لسان جرمان دو برى واشتريت مفكرة جلدية سوداء اللون من باعة الكتب القديمة فى سان ميشيل، قررت أن أكتب الرواية التى ينتظرها الجميع عن بليغ حمدي. دخلت حديقة سان لكسمبورج وسمعت يا بو العيون السود وأدركتُ سرّ العربيد الموهوب وسر موسيقاه. هناك قابلت سليمان العطار مصادفة، وتمشّيت معه عاما كاملا تعلمت فيه الفرق بين مقام السيكا ومقام الهزام، قلت لنفسى أن سنة كاملة كافية للنسيان، غير أن الحب أقوى من الزمن، وغير أن الألم لا يحتمل. نزلت من عنده متوجها للبيت - أو بالأحرى لمسكن اللاجئين، ثم خطرت فى بالى فكرة بدت لى فى مترو باريس منطقية، غيرت خط توجهى إلى دونفير روشرو، وقلت يمكن، وقلت لعل المحبوب القاسى لو رآنى لرقّ قلبه، غير أن الغباء هو دائي، وغير أن الأمل هو المرض الذى لا أعرف كيف أشفى منه.
فهل يمكنك أن تشفينى يا دكتور. .."
*
يطلب منى القاضى أن أترجم له ما قال، ولا أعرف بم أجيب. يسألنى أن أقترح قرارا بشأن احتجازه أو تركه، وأنا أتساءل متى ينتهى هذا اليوم الطويل الثقيل، فأذهبُ لأدسّ نفسى فى الفراش.